لطالما تعاملت الولايات المتحدة مع فلسطين على أنها عديمة الصلة بـ “حربها ضد الإرهاب”، فرضية لا تزال موجودة بينما تقود القوة العظمى حملة لإذلال الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وهزيمتها. غير أنّ التعليقات التي أدلت بها شخصيات بارزة من الجانبين المتعارضين لتلك الحملة الشهر الماضي، أكدت مرة أخرى أن فلسطين لا تزال محورية بالنسبة لأي جهود جادة لمكافحة التطرف في المنطقة.
عندما سئل روب مالي، المنسق الرئيسي للعمليات ضد تنظيم داعش، عما إذا كان التنظيم له أي علاقة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، أجاب: “هناك أسباب كثيرة لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني… أحد الأسباب هو أنه سيساهم في نزع فتيل قضية تثير تأجيج التطرف”. صحيحٌ أنّ مالي اعترف بأن حل الصراع لن يكون “العصا السحرية التي من شأنها أن تضع حداً لجميع المشاكل التي ابتلت بها منطقة الشرق الأوسط”، إلا أنه أكد أن “عدم التوصل إلى قرار يؤجج التطرف”.
وجاء بيان صادر عن زعيم داعش أبو بكر البغدادي بعد أسبوعين على تعليقات مالي ليؤكّد على كلام الأخير، إذ قال البغدادي: “اعتقد اليهود أننا نسينا فلسطين، وأنهم نجحوا في إلهائنا عنها، لا والله، لم ننس فلسطين لحظة واحدة، وبعون الله لن ننساها… إن طلائع الجهاديين سيحيطون بكم قريباً في يوم تعتقدون أنه بعيد ونحسبه قريباً. نحن نقترب يوماً بعد يوم”.
نمط مستمر
إنّ رسالة التهديد التي أرسلها البغدادي تضيفه إلى القائمة الطويلة من الشخصيات السياسية الشرق أوسطية ممن استخدموا القضية الفلسطينية – سواء بصدق أم لا – كأداة سياسية.
استخدم الحكام العرب عبر التاريخ القضية الفلسطينية لبناء الشرعية لحكمهم. في العام 1977، على سبيل المثال، كان معمر القذافي محورياً لإنشاء جبهة الصمود والتصدي احتجاجاً على المفاوضات بين مصر وإسرائيل.
وكان من بين المشاركين في هذه الجبهة حافظ الأسد وصدام حسين. ولكن، في نهاية المطاف، بدلاً من تحقيق شيء من أجل فلسطين، استخدم الأعضاء محنتها لشرعنة حكمهم المطبق على شعوبهم والحفاظ على هذا الحكم.
بعد حوالي 40 عاماً، لا يزال النمط هو هو نظراً لأن فلسطين لا تزال في صلب الخطاب السياسي الشرق أوسطي. أخبرني دبلوماسي إيراني سابق مؤخراً أنّ الحرب في سوريا تدور حول الحفاظ على “محور المقاومة” بين إيران وسوريا وحزب الله في وجه إسرائيل والولايات المتحدة في ظل دعمها للقضية الفلسطينية.
من هذا المنظور، لم تعد القضية بقاء بشار الأسد في السلطة، ولكن ضمان أن سوريا لا تزال عضواً ملتزماً في المحور.
قال نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني العميد حسين سلامي خلال خطبة صلاة الجمعة في العاصمة الإيرانية طهران: “[…] نقول للأمريكيين إننا سنواصل تطوير قدراتنا الصاروخية ما داموا يقتلون أبناء فلسطين ويدفنون أطفال اليمن المظلومين في بيوتهم ويشرّدون الأمة السورية المسلمة…”
وفي اليمن، إنّ شعار الحوثيين هو “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. حتى عندما كانوا يحرزون تقدّماً في العاصمة اليمنية في العام 2014، لم يغفلوا عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، واعتمدوا شعاراً آخراً “نقاتل في صنعاء وعيوننا على القدس”.
أساليب خاطئة لمحاربة التطرف
لن تكون الولايات المتحدة أبداً قادرة على بناء تحالف موثوق في الشرق الأوسط ضد داعش أو تنظيم القاعدة أو غيرها طالما أنها تستمرّ بدعمها المفتوح وغير المشروط لإسرائيل. ما تعتبره الولايات المتحدة تحالفاً يضم 60 دولة ضد داعش هو، على الأقل في الشرق الأوسط، تحالفاً مع حكومات تفتقر إلى الشرعية مع شعوبها إلى حد كبير.
بالتالي، سيكون من الصعب الحصول على الدعم الشعبي للقتال ضد داعش. إذ لا يمكن على الحكومات أن تحتوي التطرف وهزيمته من تلقاء نفسها. لو كان ذلك ممكناً، لاستطاع حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن يقضي على تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان، ولكانت الطائرات الأمريكية بدون طيار تمكّنت كذلك من القضاء على تنظيم القاعدة في اليمن. لكنها فشلت في ذلك. في المقابل، انهارت القوات الحكومية العراقية بسرعة كبيرة عندما هاجمتها قوات داعش.
إنّ الشعوب التي تمثل بيئة التجنيد الرئيسية للمجموعات المتطرفة هي القادرة على تحييد التطرف، وهذا يحدث فقط عندما تكون قلوبها وعقولها تتعارض معه. الشعوب، وليس الحكومات، هي من تستطيع أن تعطي الشرعية لأي حملة ضد التطرف.
بالنسبة للعالم العربي، تقف الشعوب ضد الولايات المتحدة وانحيازها التام لصالح إسرائيل. فمن الصعب جداً أن تثق بالولايات المتحدة في حين أن الأخيرة تدعم إسرائيل بإفراط وتمنع الفلسطينيين من تحقيق طموحهم الوطني ببناء دولة خاصة بهم.
خلال زيارة قمت بها إلى الأردن مؤخراً، عبّر كثيرون عن شعورهم بأنهم ضد داعش، ولكن أيضاً ضد الشراكة مع الحكومة الأمريكية بشكلٍ قاطع، نظراً لأنها تُعتبر الضامن لمشروع صهيوني في فلسطين. إنّ صورة الولايات المتحدة هذه بالإضافة إلى تاريخها المليء بالتدخلات في المنطقة يغذّيان انعدام الثقة بين العرب ويعوقان بناء شراكة لمكافحة التطرف.
الموحّد العظيم
لقد هزّ صعود نجم داعش المنطقة واستقطب اهتمام العالم وأثار استجابة عاجلة، وهذا أمرٌ مفهوم. منذ العام 1948، استجاب العالم بالطريقة نفسها إزاء العديد من الأزمات والحوادث، بما في ذلك زيارة أنور السادات إلى القدس في العام 1977 وغزو صدام للكويت وحرب الخليج التي لحقت ذلك، بالإضافة إلى الربيع العربي مؤخراً.
ومع ذلك، بينما تتعاظم الأزمات وتنحسر، لا تزال قضية فلسطين تلقي بظلالها على المنطقة. وفي الوقت الذي قسمت هذه الأزمات وغيرها المنطقة، تبقى فلسطين الموحّد العظيم.
عاجلاً أم آجلاً، ستنتهي الحرب في سوريا، إلا أنّ الناس في الشرق الأوسط، سواء كانوا عرباً أو فرساً، سنة أو شيعة، علمانيين أو إسلاميين، سوف يظلّون يرغبون بالعدالة من أجل فلسطين. قد يتم القضاء على داعش، إلا أن التطرف الذي زعزع منطقة الشرق الأوسط سيظلّ يتغذّى على قضية فلسطين.
يجب أن تفهم واشنطن أنّ كل مرة تستخدم فيها الفيتو ضد مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي بشأن المستوطنات الإسرائيلية أو قيام دولة فلسطينية، هي تخرّب جهودها لمكافحة التطرف.
يبدو أنّ البغدادي، المتطرّف الأكثر شهرة في العالم اليوم، قد أدرك قيمة استخدام فلسطين للتقرب من قلوب شعوب المنطقة وعقولها. دعونا نأمل أن يتمكّن روب مالي من إقناع رئيسه بشأن قيمة فلسطين، ليس فقط من أجل مكافحة التطرف فسحب، إنما أيضاً من أجل استقرار المنطقة برمتها.