تبيّن لي أن الكتابة إلى جريدة الهافينغتون بوست هو أسهل بكثير بالنسبة لي من أن أشرح لابنتي، المولودة في ولاية فرجينيا الأمريكية والتي تبلغ من العمر 12 عاماً، لماذا رمت مجموعة من الشبان بالقرب من مدينة نابلس بالضفة الغربية الحجارة على الجيش الإسرائيلي الشهر الماضي، حين وجدنا أنفسنا عالقين في زحمة سير بسبب تبادل إطلاق النار. كان علي إخبارها بأنّ الاحتجاجات قامت بعد أن هاجم مستوطنون إسرائيليون يعيشون في مكان قريب منزل عائلة فلسطينية، وأضرموا النار فيه وأفراد العائلة نيام، مما أدّى إلى حرق الطفل علي دوابشة، البالغ من العمر 18 شهراً، حتى الموت. وأصبحت مهمّتي أصعب الأسبوع الماضي عندما كان عليّ إخبارها أنّ والدة الطفل توفيت أيضاً متأثرة بجروحها في المستشفى بعد شهرٍ على هذه الحادثة، وكان الوالد قد توفّي أيضاً قبلها منذ عدة أسابيع.
كانت ريهام دوابشة، مدرّسة مادة الرياضيات البالغة من العمر 28 عاماً، نائمة مع عائلتها عندما هجم المستوطنون على المنزل وأحرقوه. غطت الحروق أكثر من 90 بالمئة من جسدها وتوفيت دون معرفة ما حدث لزوجها وطفلها، الذين توفيا قبلها. علّق طلابها لافتة كبيرة في مدرستهم كُتب عليها: ” نحن غداً في انتظار عودتك”. اليوم، يشعر طلاب ريهام بخيبة أمل – وعيون معظمهم اغرورقت بالدموع – مدركين أنّ معلمتهم المحبوبة في الواقع لن تعود أبداً. الآن وقد اصبح يتيماً، لا يزال ابنها البالغ من العمر أربع سنوات في المستشفى متشبّثاً بالحياة رغم الحروق الشديدة.
إنّ إرهاب المستوطنين ليس غريباً عن الفلسطينيين. في الواقع، ارتفع عدد هجمات المستوطنين ضد الفلسطينيين بنحو 150 بالمئة سنوياً بين العامين 2008 و2012. لم يزد إرهاب المستوطنين من حيث الحجم فحسب، بل أيضاً من حيث طبيعة الهجمات ووحشيتها. على سبيل المثال، في العام 2014 قام مستوطنون إسرائيليون بخطف الفتى محمد أبو خضير، فلسطيني من القدس يبلغ 16 عاماً، وأحرقوه حياً.
لم يوجّه الجيش الإسرائيلي، الذي يسيطر بالكامل على الأراضي التي تعيش فيها عائلة دوابشة، أصابع الاتهام أو يحاكم أحداً في ما يتعلق الهجوم. في 11 سبتمبر، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون عن الموقف الرسمي للحكومة الإسرائيلية إزاء إرهاب المستوطنين عن طريق الاعتراف علنا بأن “مسؤولين أمنيين يعرفون الجناة… إلا أنهم تأخروا في ملاحقتهم خوفاً من إفشاء المصادر وبسبب عدم كفاية الأدلة”. يلقي هذا الفشل بمحاسبة المستوطنين الجناة المزيد من الضوء على كيف أن الحكومة الإسرائيلية هي مسؤولة عن خلق ثقافة الإفلات من العقاب التي كانت سبباً رئيسياً لإرهاب المستوطنين.
ذكر مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان (بتسيلم) أنه اتصل بالشرطة الإسرائيلية بشأن 352 حالة من العنف ارتكبها المستوطنون بين عامي 2000 و2011، ووجد أنه في حين تم فتح تحقيقات 71 بالمئة من الوقت، فقط 11 بالمئة من تلك التحقيقات أدت إلى حكم بالاتهام. وقد قام مركز بتسيلم أيضاً بتوثيق تطبيق إسرائيل لـ “النظام القضائي المزدوج” الذي يتساهل مع المستوطنين، مما يسمح لهم بمواصلة هجماتهم. ولا بد من الإشارة إلى أن ثقافة حركة الاستيطان لا تزال سبباً رئيسياً في التحريض على الإرهاب وإيواء الإرهابيين. ترتبط هذه الثقافة طبيعياً بطبيعة المشروع الاستيطاني في فلسطين الذي بدأته ودعمته كل الحكومات الإسرائيلية على مدى عشرات السنين.
يجب على الحكومة الأمريكية أن تترجم موقفها الرسمي باعتبار المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية إلى عمل. وبالإضافة إلى العوامل الأخلاقية والإنسانية التي تثيرها حوادث على غرار حرق عائلة دوابشة، يؤثّر الإرهاب المستوطنين سلباً على المصالح الأمريكية. فهو يضرّ بشكلٍ خاص بصورة الولايات المتحدة في العالم ويقوّض مصداقيتها كوسيط موثوق به في الشرق الأوسط. إذ تُعتبر الولايات المتحدة “مذنب بالتبعية” لأنّ واشنطن قد أحبطت مراراً مقترحات مجلس الأمن الدولي لوقف المشروع الاستيطاني في فلسطين. وعلاوة على ذلك، فإن التوسع المستمر للمستوطنات الإسرائيلية هو في الواقع يمدد الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبالتالي يحبط الجهود الأمريكية من أجل حل هذا الصراع وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
ولكن، بعيداً عن السياسة، لا بد أن تكون الولايات المتحدة معنيّة بشكل مباشر نظراً للعدد الكبير من الأمريكيين الذين يعيشون في المستوطنات الإسرائيلية. وبحسب دراسة حديثة أجرتها جامعة أكسفورد ونشرتها صحيفة هآرتس، يقدّر أن حوالي 60 ألف يهودي أمريكي يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية. هذا وقد نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز مقالاً مهماً هذا الشهر، تحت عنوان “الإرهابيون الإسرائيليون ولدوا في الولايات المتحدة الأمريكية ” والذي يسلّط الضوء على تورّط مواطنين أمريكيين في إرهاب المستوطنين للفلسطينيين، بما في ذلك الحادث الشنيع ضد عائلة دوابشة.
وبحسب هذا المقال، إنّ “العديد ة من المحرضين المزعومين، المحتجزين حالياً إلى أجل غير مسمى، ليسوا إسرائيليين بالولادة – بل من جذور أمريكية”. مما لا شكّ فيه أن يهوداً أمريكيين اعتدوا على فلسطينيين في الماضي. ومثال على ذلك باروخ غولدشتاين، الطبيب اليهودي الذي قاد مذبحة الخليل في العام 1994 التي أودت بحياة 29 فلسطينياً وجرح 125 آخرين، قد ولد وترعرع في بروكلين، نيويورك. ونظراً للموقف الرسمي الأمريكي بشأن المستوطنات باعتبارها غير قانونية، يجب على الحكومة الأمريكية أن تتوقّف عن غض الطرف عن مواطنيها الذين يشاركون في إبقاء هذا المستوطنات وتوسعها، والأسوأ من ذلك، الذين يرتكبون هذا النوع من الإرهاب.
وكذلك، إن الآلاف من المواطنين الأمريكيين الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة يخضعون للاعتقال التعسفي والترحيل وغيرها من أشكال الإذلال على يد الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى إرهاب المستوطنين. وكانت سلامة ابنتي الأمريكية الفلسطينية بخطر عندما وجدنا أنفسنا محاصرين وسط تبادل إطلاق النار خارج نابلس. فقد أخذت نصيبها من الغاز المسيل للدموع والانتظار في نقاط التفتيش وتعرّضت لرصاص الجيش الإسرائيلي الحي والمطاطي.
يجب على واشنطن ألا تدعي أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ومسألة المستوطنات هي قضايا خارجية. إذ يتأثر مواطنيها على كلا الجانبين. وقد أظهرت إسرائيل أنه لا يمكن الوثوق بها لمعالجة مسالة إرهاب المستوطنين بفعالية، ولا ينبغي أن تترك الولايات المتحدة مصير مواطنيها في يد حكومة أجنبية. يجب أن تتوقّف الولايات المتحدة عن مجرد الادلاء بالتصاريح عندما يتعلق الأمر بالمشروع الاستيطاني بشكلٍ عام وأن تتخذ الإجراءات اللازمة على الفور. وكجزء من الاعتراف بأن المستوطنات هي غير قانونية وأنها تشكّل عائقاً خطيراً أمام تحقيق السلام، لقد قرّر الاتحاد الأوروبي وضع علامات على البضائع الإسرائيلية التي تمّ انتاجها في المستوطنات، وذلك يٌعتبر تدابير إضافية. وعليه، لو كانت واشنطن جدّية بشأن مكافحة الإرهاب وحماية مواطنيها وحل هذا الصراع، لا بدّ أن تحذو حذو الاتحاد الأوروبي بسرعة.