في الحادي والثلاثين من يناير 2013، استضاف مركز بروكنجز الدوحة ندوة حول الوضع في لبنان في وقت
تواجه فيه البلاد تحديات خطيرة من الداخل والخارج. وناقش المتحدثون حالة الفشل التي أصابت المؤسسات الحكومية وإمكانية الإصلاح إضافة إلى تداعيات الصراع السوري فيما يتصل بالسياسة اللبنانية والمجتمع اللبناني. وكان من بين المشاركين زياد بارود وزير الداخلية والبلديات السابق في لبنان، ومحمد شطح المستشار الأول لرئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري ووزير المالية الأسبق، وعلي حمدان مدير مكتب الشؤون الدولية لحركة أمل اللبنانية، ورامي الريس المتحدث باسم الحزب التقدمي الاشتراكي والمستشار الإعلامي لوليد جنبلاط. وقد أدار النقاش مدير مركز بروكنجز الدوحة سلمان شيخ وحضره لفيف من أعضاء الأوساط الدبلوماسية والأكاديمية والإعلامية وقطاع الأعمال.
وبالرغم من أن النقاش افتُتح حول التحديات الداخلية اللبنانية وتحديدًا الكهرباء باهظة التكلفة والتي لا يمكن الاعتماد عليها وتدهور البنية التحتية وارتفاع معدلات البطالة، فإنه سرعان ما أن تحول إلى الأزمة السورية. وفي حين دعا سلمان الشيخ المشاركين لتسليط الضوء على الفشل التاريخي الذي مُنيت به الحكومة اللبنانية فيما يتصل بتوفير خدمات حقيقية لمواطنيها، أبدى المشاركون استعدادهم للدفاع عن الحكومة الحالية على اعتبار أنها تمكنت من حفظ الاستقرار في لبنان وسط ما أسماه محمد شطح “عاصفة بمعنى الكلمة في المنطقة”. وشدد علي حمدان على أن لبنان “ليست جزيرة” وأن هذه الحكومة التي يرأسها رئيس الوزراء نجيب ميقاتي وصلت إلى السلطة وسط “اضطرابات” تعصف بالمنطقة. وقال رامي الريس من كتلة 8 آذار إنه استنادًا إلى الأحداث في سوريا، فإن جهود الحكومة اللبنانية الحالية “جيدة بالقدر الكافي”. وبالرغم من أن شطح والمحسوب على تحالف 14 آذار المعارض قد قدم بعض النقد اللاذع لحكومة 8 آذار، فإنه أكد على أن لبنان “محظوظة” لأنها ليست في حرب.
بيْد أنه عندما اتجهت دفة النقاش إلى الخلل الحقيقي الذي أصاب السياسة اللبنانية، ألقى المشاركون باللائمة على طبيعة النظام السياسي اللبناني. فعلى سبيل المثال، ألقى الريس باللوم على المجتمع السياسي الذي يتعامل مع المشكلات من منظور ضيق، تهدف مكوناته لتأمين مكاسب من أجل دوائرهم الانتخابية. وأعزى شطح هذا الأمر إلى نظام لبناني ” ملئ بالمخاطر الأخلاقية” نظام يدفع الساسة والزعماء إلى أن يتصرفوا بطائفية وإلا خاطروا بفقدان ترقية أو عُوقبوا من قبل ناخبيهم. وأضاف شطح أن هذا النظام المصاب بالخلل ربما يمكن تتبع جذوره وصولًا إلى ميلاد لبنان، وهي إشارة عضدها حمدان الذي قال إنه منذ استقلال لبنان، فإنها فشلت في تشكيل حكومة حقيقية ومفهوم حقيقي لمعنى المواطنة. وأضاف حمدان قائلًا إن النتيجة كانت مستوى متواضع من الثقة قاد أحزاب البلاد إلى توجيه الاتهامات على نحو دائم لبعضها البعض. من جانبه قال زياد بارود وهو مستقل سياسيًا إن نفس المشكلات استمرت لعقود لكنه عبر عن أسفه لما يرى أنه نهج يعتمد على رد الفعل وليس المبادرة عند التعامل مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تزداد سوءًا في لبنان.
هذه المشكلات التي يئن منها النظام ككل ساعدت الآن على تشكيل الجدل الدائر حول القانون الذي يحكم الانتخابات البرلمانية اللبنانية في يونيو/ حزيران. وصف بارود وضعًا يغيب عنه تشريع ثابت للقانون الانتخابي في لبنان، الأمر الذي يعني أن الأحزاب السياسية تضع ببساطة مسودة لقانون انتخابي جديد تتوقع منه الاستفادة الذاتية. وشكا بارود وحمدان من أن لبنان لا تزال تتحدث عن نفس المشكلات القانونية التي كان من المفترض أن تكون قد حُلت بموجب اتفاق الدوحة 2008. وقد عبر بارود وشطح وحمدان جميعهم عن تعاطفهم مع المطالب المسيحية المتعلقة بتمثيل أكثر فعالية؛ تلك المطالب التي تمثل أساسًا لقانون “اللقاء الأرثوذكسي” الانتخابي المقترح. ومع ذلك قال بارود إن القضية لا تتعلق بالأعداد بقدر ما تتعلق بالدور الذي يمكن أن يلعبه المسيحيون في بناء لبنان الحديثة.
وقد أكد الريس على أن النزاع حول القانون الانتخابي لا ينبغي أن يكون مبررًا لتأجيل الانتخابات. وقال إن لبنان أجرت الانتخابات على مدار الستين عامًا الماضية. وأضاف قائلًا إنه في الوقت الذي يقدم فيه العرب تضحيات لتحقيق الديمقراطية في أوطانهم، لا يمكن أن نرى لبنان تعود إلى الوراء. وتساءل بارود أنه إذا لم تقم لبنان بإجراء الانتخابات، فمن يضمن أن نظام البلاد لن ينهار؟ وإذا أُجريت الانتخابات، فمن يضمن أن البلاد لن تصل إلى نظام جديد وبأي ثمن سيكون هذا؟
وتعود هذه القضايا الجوهرية جزئيًا إلى قراءات متباينة لدستور البلاد وإلى ما أطلق عليه شطح “الغموض التأويلي” للدستور. وأشار كل من شطح والريس إلى تأسيس نظام تمثيل ثنائي يشمل مجلس شيوخ وبرلمان، باعتبار ذلك طريقة للخروج من المأزق السياسي الحالي الذي تعيشه البلاد. وحذر حمدان من الاعتماد على الحلول السريعة. وقال إن مشكلة البلاد تكمن في التطبيق الانتقائي لاتفاق الطائف الذي يدعو هو نفسه إلى تأسيس مجلس شيوخ في نهاية المطاف. وأضاف بارود قائلًا إنه سواءً كان الحل مجلس شيوخ أو أي شئ آخر، يكمن التحدي الحقيقي في وضع آليات من أجل “تفعيل التنوع” في لبنان.
بطبيعة الحال، لم يخلُ النقاش من التجاذب الحزبي واختلاف الرؤى. فقد وجَّه شطح على وجه الخصوص عددًا من الاحتجاجات الحادة ضد حكومة 8 آذار حيث قال إن الحكومة وصلت إلى السلطة بعد أن تم الإطاحة بالحكومة السابقة بتهديد القوة والحرب الطائفية، وتولى رموز الحكومة مرارًا وتكرارًا حماية من اغتالوا أو حاولوا اغتيال زعماء 14 آذار. وأشار إلى اغتيال وسام الحسن الذي كشف عن خطة سورية مزعومة لاغتيال زعماء بارزين من المسيحيين والسنة، ما أجبر قوى 14 آذار على الانسحاب من أي تفاوض أو حوار.
لكن حمدان دعا إلى عودة إلى الحوار الوطني الذي بدأ في 2006 وهو حوار تمركز مؤخرًا حول إستراتيجية الدفاع الوطني اللبناني بعبارة أخرى هيمنة الدولة على أسلحة حزب الله. وحتى بالرغم من أن حمدان وافق على أن الحوار لم تتمخض عنه بعد نتائج قوية، قال إنه حتى إذا أهدر اللبنانيون الوقت في الحوار، فإن ذلك أفضل من المقاطعة. كما رأى الريس أيضًا أن الحوار الوطني ممارسة ضرورية يجب أن تظل قنواته مفتوحة مهما كانت التكاليف. وفي حين عبر عن تقديره لتحرير حزب الله للأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنه قال إن الدولة يتعين عليها الهيمنة على قوة الجيش. وأضاف قائلًا إنه كلما أسرعت لبنان في الوصول إلى إجماع على إستراتيجية دفاع وطني، تمكنت سريعًا من بناء قدرات لمواجهة العدوان الإسرائيلي. بيْد أن شطح رفض الحوار الوطني اللبناني واصفًا إياه أنه بلا هدف، وقال إن الحوار لن يؤدي إلى شيء طالما أن الهدف الوحيد لدى حزب الله هو الاحتفاظ بالوضع الراهن. ووصف الحوار بأنه نوع من الزيف والسخف، موضحًا أن العلاقة الإستراتيجية “المعلن عنها” من قبل حزب الله مع إيران تعني أن اللبنانين تُركوا لانتظار حربهم القادمة، تلك الحرب التي يقرر توقيتها آخرون. ومع ذلك، قال بارود إن الحوار يبدو أنه البديل السياسي الوحيد المتاح. وأضاف قائلًا إن بعض الطوائف وقعت في خطأ الاعتقاد أنها قادرة على إلحاق الهزيمة بالآخرين في الحال. وشدد بارود على أن الاتفاق هو الطريقة الوحيدة التي تنجح بها لبنان.
وفي نهاية المطاف، اتجهت بوصلة الحوار إلى الأزمة السورية التي وصفها حمدان بأنها “أكبر تهديد” يواجه لبنان في تاريخها. وامتدح “إعلان بعبدا” الذي خرج إلى النور في يونيو 2012، والذي أعلنت لبنان بموجبه سياسة واضحة “بالفصل التام” أو “الحيادية الإيجابية”. وعلى حد قوله، ليس أمام اللبنانيين خيار آخر؛ فلبنان ليس بمقدورها فعل أي شيء للتأثير على الوضع في سوريا، في حين أن امتداد الحرب إلى لبنان يمكن أن يلتهم البلاد أخضرها ويابسها.
من جانبه، كان شطح على استعداد لاتخاذ موقف متحيز من أجل التأثير الخطابي. فقد قال إن هؤلاء الأقرب إلى الشعب السوري اجتماعيًا وعرقيًا في لبنان كانوا في طليعة خصوم النظام. وأضاف قائلًا إن البعض في لبنان لا سيما في الشمال تعرضوا لنوع من القصف والقتل منذ 25 عامًا وهو الوضع الذي يُرى في سوريا اليوم. وفي غضون ذلك، فإن حلفاء سوريا اللبنانيين هم أولئك الذين لديهم “علاقة إستراتيجية” مع النظام السوري. لكن شطح شدد بنفس منطق حمدان على أن لبنان ينبغي ألا تنخرط في الأزمة السورية وأثنى على إعلان بعبدا حيث وصفه “بالتاريخي” وأنه ينبغي أن يُدمج في دستور البلاد.
لكن المشاركين أعربوا عن مخاوفهم من أن إعلان بعبدا قد يكون غير كافٍ أو من أن البعض لديهم رغبة في الاستهزاء به. وحذر الريس قائلًا إن الالتزام بالوثيقة ينبغي أن يتم تعزيزه حيث إن وجود مقاتلين لبنانيين في سوريا وغيرها من الاستفزازات مثل الطائرة بلا طيار التابعة لحزب الله والتي يطلق عليها “أيوب” كانت بمثابة خطر من شأنه أن يزعزع استقرار الأوضاع. بالمثل، حذر شطح قائلًا إن إرسال مقاتلين أو تخزين أسلحة من أجل سوريا داخل لبنان من شأنه أن يعرض البلاد للخطر.
وأثناء هذا النقاش، لم تزد الضربة الجوية الإسرائيلية الليلة الماضية على هدف سوري الموقف السوري إلا تعقيدًا. وقال شطح أبرز منتقد للنظام السوري بين المشاركين إن اللبنانين بلا استثناء ضد هذا الفعل الإسرائيلي. فإذا كانت إسرائيل تعتقد أن بمقدورها شراء المصداقية بالثوار السوريين، فإنها مخطئة. وشكا حمدان من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية جوًا وبرًا وبحرًا، وحذر قائلًا إن إسرائيل كانت تنتظر ضعف وانقسام القوة العربية حتى تتمكن من التحرك من جديد. واستبعد شطح احتمال أن يكون الهجوم الجوي الذي شنته إسرائيل على سوريا بمثابة دليل على حملة عسكرية أوسع نطاقًا، حيث إنه يرى أن أي “عدوان إسرائيلي” لا يتم الإعلان عنه أبدًا أو إعطاء بوادر له مسبقًا. بيد أنه استدرك قائلًا إن هذا الهجوم الإسرائيلي لفت الأنظار إلى حاجة اللبنانيين إلى الوحدة فيما يتعلق بهذه القضية.
وعند طرح سؤال حول الكيفية التي يمكن أن يساعد بها المجتمع الدولي لبنان، تباينت الإجابات. فمن جانبه قال شطح إن تأثير المجتمع الدولي قد “انحسر” وأن هناك “الكثير من المبالغة” بشأن تأثير التحرك الدولي. لكنه أشار إلى الدعوات اللبنانية لمساعدة فنية دولية فيما يتعلق بمراقبة الحدود اللبنانية السورية، بيْد أنه قال إن مثل هذه المساعدة تم إحباطها نتيجة معارضة قوية من جانب حزب الله. كما أشار بارود إلى طلبات لبنانية لمساعدات تمويل دولي من أجل استيعاب العبء الجديد الذي يثقل كاهل لبنان وهو عبء اللاجئين، وقال الريس إن التعامل مع الموقف الإنساني هو الطريقة المثلى للحفاظ على استقرار لبنان.
فيما يتعلق بالشق الدبلوماسي، طالب حمدان المجتمع الدولي بعدم الكيل بمكيالين عند التعامل مع إسرائيل وجيرانها العرب، وحذر كل من بارود وحمدان من خطط لاتفاقية “سايكس بيكو جديدة” يمكن أن تقسم سوريا والمنطقة على اتساعها. ودعا الريس إلى إجماع دولي على اتفاقية جنيف (يونيو 2012)، في حين طالب شطح المجتمع الدولي بأن يؤكد ويتصرف بناءً على إعلان حيادية لبنان. وقال إن العالم إذا تعامل مع لبنان باعتبارها ساحة لحرب سوريا، فإن البلاد سوف تواجه عواقب خطيرة.
وكان من بين المتحدثين في نهاية الندوة ضيف خاص هو ميغيل موراتينوس، وزير الخارجية الأسباني السابق الذي قال إنه بعد عشرين عامًا من التعامل مع لبنان، فإنه متفاؤل بمستقبل هذا البلد. فإنه لا وجه للمقارنة على حد قوله بين لبنان اليوم ولبنان منذ 15 عامًا أو حتى 5 أعوام. وأضاف أنه لا يستطيع أن يتصور أن لبنان الماضي لا يمكن أن تغرق في الأزمة السورية. وعبَّر عن آماله في أن تكون الأزمة السورية بمثابة فرصة سانحة أمام اللبنانيين كي يقرروا مصيرهم بأنفسهم. وقال موراتينوس إن اللبنانيين هذه المرة بإمكانهم التحاور في بيروت وليس في الدوحة أو الطائف.
ربما تدعو الحاجة إلى أن يبدأ هذا النوع من التغير المتطلع للمستقبل من الآن. وكما أوضح شطح، فإن لبنان سواف تواجه في العقد القادم تحديين كبيرين: العيد المئوي لتأسيسها في عام 2020 وأولى عوائد البلاد من احتياطيات الغاز الطبيعي المستخرج من البحر المتوسط. فإذا رأت لبنان تدفقًا هائلًا للمال على حكومة تستمر في أدائها الضعيف أو فسادها، فربما يتأجل الإصلاح الحقيقي لأجل غير مسمى. إن قدرة الشعب اللبناني على الالتئام خلال السنوات القليلة القادمة بمثابة العامل الحاسم في تقرير ما إذا كانت لبنان ستبدأ قرنها الثاني بتغيير سياسي أم بالسير على نفس المنوال.