نظّم مركز بروكنجز الدوحة ندوة في 21 أبريل 2016 حول التحولات المستمرة في سوق الغاز الطبيعي المسال. شارك في الندوة آموس ج. هوكستين، المبعوث الخاص ومنسق شؤون الطاقة الدولية في وزارة الخارجية الأمريكية؛ وسعادة السيد عبدالله بن حمد العطية، رئيس مؤسسة عبدالله بن حمد العطية للطاقة والتنمية المستدامة. أدار الجلسة سلطان بركات، زميل أول في قسم السياسة الخارجية ومدير الأبحاث في مركز بروكنجز الدوحة. حضر الندوة شخصيات دبلوماسية وأكاديمية وإعلامية في دولة قطر.
استهل بركات الندوة مشيراً إلى أن أسواق الطاقة تشهد فترات مثيرة، لا بل فترات تحولية. يشكل زيادة توفر الغاز الطبيعي المسال وتراجع أسعاره عاملاً أساسياً لهذا التحول، إذ يسمح للدول بتنويع مصادر الطاقة وتلبية ارتفاع الطلب واستبدال مصادر الوقود القديمة إلى مصادر متجددة عصرية. ضمن هذا الإطار، يبرز الغاز الطبيعي المسال كوقود تحولي مهم من شانه أن يسهّل الانتقال إلى طاقة أنظف. إلا أننا لا نزال نشهد بعض التردد في ما يتعلق باستهلاك الغاز الطبيعي، كما هو الحال في بعض الأماكن كالصين التي تفكّر في العودة إلى استخدام الفحم.
أيّد هوكستين رأي بركات وأضاف أن هذه الأوقات هي في الحقيقة فترات ثورية بالنسبة لمختلف جوانب سوق الطاقة لاسيما بسبب بروز اكتشافات المصادر غير التقليدية وفي البحر، ونمو مصادر الطاقة المتجددة، والتطورات التكنولوجية ومستويات أعلى من الفعالية، بالإضافة إلى الالتزام السياسي المتجدد بالتغير المناخي.
بعد ذلك، قدّم هوكستين وصفاً لتطور صناعة الغاز الطبيعي، مشيراً إلى إنه منذ بضعة عقود فقط، كان بإمكان نقل الغاز فقط عبر أنابيب محددة بين المستهلك والمنتج، وهي علاقة شبهها هوكستين بـ”الزواج الكاثوليكي”. ألحِق نظام النقل القديم بعد ذلك، ضمن جهود قادتها قطر، بالغاز الطبيعي المسال الذي أعطى مرونةً لسوق الغاز وأتاح بيع هذه السلعة باستقلالية أكبر. لكن، خلافاً للنفط، لم يكن نقل الغاز الطبيعي المسال في الناقلات أمراً سهلاً ولم يكن جاهزاً للاستخدام الفوري، بل كان لا بد من إعادة تغويزه قبل ذلك. بمعنىً آخر، كان لا بدّ من القيام باستثمارات بعدة مليارات من الدولارات في البنية التحتية لاستخدام الغاز الطبيعي بعد شرائه. لمواجهة هذه المشكلة، ظهر ابتكار جديد وهو وحدات التخزين العائمة وإعادة التغويز، وهي وحدات قابلة للنقل لتحويل الغاز الطبيعي المسال أتاحت للمستهلك التخلي عن الاستثمار الضخم في إعادة تغويز الغاز، ما جعل الغاز الطبيعي المسال أسرع وأرخص وأكثر توافراً.
نظراَ لهذه التحولات، كان منتجون جدد متلهفين للدخول في سوق الغاز الطبيعي المسال؛ ستنافس أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية مستويات الإنتاج القطرية مع نهاية العقد، ومن المتوقع أن يحذو حذوهما منتجون آخرون، كالموزمبيق وتانزانيا ومصر وإسرائيل وقبرص. حين استلم الرئيس أوباما سدة الرئاسة، كانت الولايات المتحدة أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال في العالم. والمثير للاهتمام هو أنّ الولايات المتحدة قامت بتصدير أول حمولةٍ من الغاز الطبيعي المسال منذ بضعة أسابيع. في الحقيقة، تمّ تحويل محطات إعادة التغويز الأمريكية المخصصة للإستيراد إلى محطات إعادة تسييل مخصصة للتصدير.
أشار هوكستين إلى أنه نتيجة التطورات هذه، بات سعر الغاز أقل ارتباطاً بالنفط. ونظراً للزيادة في الإنتاج، من المرجح أن تبقى أسعار الغاز منخفضة حتى وإن ارتفعت أسعار النفط. يمكن إعادة التوازن إلى هذه المعادلة من خلال زيادة الطلب، الأمر الذي من المرجح أن يتحقق نظراً لاستمرار الأسعار المنخفضة والالتزام المتجدد بحماية البيئة. شجع هوكستين الحكومات والشركات على استخدام الغاز كوقود تحولي، يرافقه تحوّل من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة. في الحقيقة، يرى هوكستين أنه لا بدّ للسياسة الحكومية أن تشجع هذا التحوّل بفعالية وتضبطه بهدف تحقيق أهداف التغير المناخي.
بعد ذلك وجّه سلطان سؤالاً لعبدالله العطية حول كيفية تأثير هذه التطورات على قطر. بدأ العطية، الذي يعمل في قطاع الطاقة في قطر منذ السبعينيات، بوصف انطلاقة صناعة الغاز الطبيعي في قطر. فأشار إلى أنه عندما كان معيّناً وزيراً للطاقة في العام 1992، لم يكن إنتاج الغاز الطبيعي المسال موجوداً؛ إذ كان اكتشافات الغاز أخباراً سيئة بالنسبة للشركات الباحثة عن النفط. ونظراً لصعوبات النقل وللمسافة بين قطر وكبار مستهلكي الغاز، اعتُبر الغاز صناعة فاشلة وقتها. ولكن حين قررت قطر أخيراً الاستثمار في مجال الغاز الطبيعي المسال، حصدت نجاحاً مبهراً. وتقوم قطر حالياً بتصدير الغاز الطبيعي المسال إلى آسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
المثير للاهتمام هو أنّ قطر بدأت تستثمر في الغاز عندما كان سعر برميل النفط 10 دولارات، أي عندما كان سعر النفط في أدنى مستوياته. كان الاستثمار مربحاً رغم الأسعار المنخفضة لأن أسواق النفط والغاز تزدهر وتكسد ضمن دورات اقتصادية، وما لبثت الأسعار أن تحسنت بعد ذلك. اليوم، تخطط قطر لتبني سياسة مماثلة والاستثمار في صيانة قدرات الغاز الطبيعي المسال وتطويرها رغم الأسعار المنخفضة. والأهم من ذلك أن الأسعار الحالية تشكل فرصة لزيادة الفعالية وجعل الإنتاج أكثر فعالية من حيث التكلفة، وهو التزام سيوسع هوامش الربح ما إن ترتفع الأسعار مجدداً.
أضاف العطية أن الأسعار المنخفضة ستشجع المستهلكين على تطوير البنية التحتية الضرورية لاستهلاك المزيد من الغاز، وهو أمر سيرفع بدوره الطلب على هذه السلعة على المدى الطويل. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أن قطر تستفيد بشكلٍ خاص في هذه الفترة؛ فقد طورت البلاد مسبقاً بنيتها التحتية ومرافقها كافةً، مما جعل كلفة إنتاجها أقل من كلفة الإنتاج في أي من الدول المنافسة الجديدة. حتى وإنّ هذه الأسعار المنخفضة ستمنع بعض المنافسين الجدد من دخول السوق وتجبر آخرين على التخلي عن مشاريع جديدة، لتحافظ قطر بذلك على مكانتها كرائدة في مجال تصدير الغاز.
ومن المزايا الأخرى التي أشار إليها العطية هي مرونة قطر نظراً لكونها تُشغّل أكبر أسطول غاز طبيعي مسال في العالم. كما تربطها علاقات طيبة وقديمة مع المستهلكين الذين تتعامل معهم. فعلى سبيل المثال، اليابان تشتري الغاز الطبيعي المسال القطري منذ 20 عاماً تقريباً. حين ضرب التسونامي ساحل محيط الهادئ في اليابان في العام 2011 وأجبرها على إغلاق مصانع الطاقة النووية، أرسلت قطر مئات شحنات الغاز إلى اليابان لمساعدتها في محنتها. وأكد العطية أن جميع عملاء قطر يمكنهم أن يتوقعوا أن تتصرّف معهم قطر بالطريقة عينها وأن تقدم لهم خدمة عملاء مماثلة. تُعد قطر واحدة من الدول القليلة التي تدير سلسلة الإنتاج بكافة مراحلها من التصنيع والإنتاج إلى التكرير والتوزيع والنقل، الأمر الذي يجعلها مرنة ومن الممكن الاعتماد عليها. باختصار، على النقيض، تشكل الأسعار المنخفضة حالياً فرصة مهمة تمكّن قطر من جذب مستهلكين جدد، ومن التخلص من المنتجين الجدد ومن زيادة فعاليتها.
وبعد جلسة أسئلة وأجوبة حول احتمال إنشاء إتحاد لمنتجي للغاز، والتطورات التكنولوجية في الطاقة المتجددة، وخطط التنويع في قطر، وتأمين الغاز لأوكرانيا، ختم بركات الندوة شاكراً الضيوف وقائلاً إن الاجتماع كان بنّاءً ومشجعاً إذ شدد على المكاسب المشتركة وألقى الضوء على المنافع المحتملة للوضع الراهن.