في 21 أبريل 2015، نظّم مركز بروكنجز الدوحة ندوة سياسية بشأن أزمة النزوح في ليبيا وسط استمرار موجة أعمال العنف في البلاد. وشاركت في الندوة كل من هدى مزيودات، وهي صحفية وباحثة ومعلّقة في الشؤون الليبية والتونسية، وميغان برادلي، وهي زميلة غير مقيمة في مشروع بروكنجز- كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية حول النزوح الداخلي وأستاذة مساعدة في جامعة ماكجيل. كما شارك إبراهيم شرقية، وهو نائب مدير المركز، في هذه الندوة. وكان سلطان بركات، مدير الأبحاث في مركز بروكنجز الدوحة، مدير الندوة التي حضرها لفيفٌ من الدبلوماسيين والأكاديميين والإعلاميين في قطر.
استهلّ سلطان بركات الندوة موضحاً أن الفرق الرئيسي بين اللاجئين والنازحين الداخليين هو ما إذا كانوا قادرين على عبور الحدود. وهكذا، يمكن للاجئين أن يحصلوا على أنواع معينة من المساعدة وكذلك صفة قانونية لوضعهم. إلا أنّ المجموعتين تعانيان من مسألة فقدانهما لموطنهما وجذورهما وسبل عيشهما، زد على ذلك الأصدقاء والأسرة. وينتهي بهما المطاف في بيئة صعبة تضعهما تحت رحمة الآخرين. قال بركات إن المجتمع الدولي قد أثبت أنه لا يمكنه التعامل مع هذه التحديات، وخاصة التعامل معها بطريقة محترمة، ودعا إلى إعادة النظر في اتفاقية العام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين.
كان شرقية أول المتكلّمين، فأعطى وصفاً مفصّلاً عن أزمة النازحين داخل ليبيا، بدءا من ثورة العام 2011 التي أطاحت بالقذافي. وأفاد بأن عدد النازحين داخلياً في أعقاب القتال وصل إلى 550,000 نازح، معظمهم فروا لأسباب سياسية كونهم من أنصار القذافي. وقال إن معظم النازحين عادوا إلى ديارهم بعد هزيمة القذافي، وبالتالي انخفض عددهم إلى 56,000 بحلول العام 2014، إلا أنّ بعض الجماعات، مثل أبناء مدينة تاورغاء وأعضاء قبيلة المشاشية، عانت أوضاعاً صعبة. وأشار شرقية أن عدد النازحين داخلياً في ليبيا وصل الآن إلى 400,000 نازح بسبب الحرب الأهلية الراهنة. ويتوزّع معظمهم إلى أكثر من 35 بلدة ومدينة، وغالباً ما يفتقرون إلى المأوى بسبب قلّة المخيمات المتاحة. وأضاف أنّ كثيراً من الأحيان يجدون أنفسهم في قلب القتال بين الميليشيات، وبخاصة في بنغازي وبالقرب من مطار طرابلس، مما أدى إلى تقييد تحركاتهم. وقال إنّ النازحين داخلياً من تاورغاء في مخيم جنزور قرب طرابلس تعرّضوا لحالات من التمييز عندما غادروا المخيم، ووصل هذا التمييز إلى أولادهم الذين يرتادون مدارس المنطقة.
يرى شرقية أنّ الحل النهائي هو مرحلة انتقالية ناجحة تتم خلالها مصالحة وطنية ويوضع قانون للعدالة الانتقالية. لكنّه قال إنّه ليس من المرجح جداً حدوث ذلك بسبب الحرب الأهلية الدائرة ووجود حكومتين متنافستين. بالإضافة إلى ذلك، قال إنّ الأطراف المتنازعة ملزمة بحماية النازحين داخلياً وتقديم الدعم الإنساني والتعليم اللازمين. دعا شرقية كذلك لأن يكون النازحون داخلياً ممثّلين في المفاوضات الجارية برعاية الأمم المتحدة، وذلك لضمان أن تتم معالجة أوضاعهم. وأفاد بأن أبناء تاورغاء هم على درجة عالية من التنظيم، وفي اتصال مع الدولة، كما وأنهم تمكّنوا من صياغة بعض الاتفاقيات مع مصراتة، في حين أن النازحين داخلياً الذين نزحوا في الآونة الأخيرة ما زالوا مشرّدين.
بعد ذلك، تناولت هدى مزيودات مسألة الليبيين الذي عبروا إلى تونس مشيرة إلى أن التونسيين لم يعتبروا الليبيين يوماً لاجئين نظراً للعلاقات الوثيقة التي لطالما جمعت الشعبين. وقالت إنه في العام 2011 لم يشكّل وجود هؤلاء الليبيين مشكلة كبيرة، لا سيما وأن عدداً كبيراً منهم وجد ملجأ له لدى الأسر التونسية في الجنوب وأن تونس تلقت دعماً من الأمم المتحدة. إلا أنها أشارت إلى أنّ دخول موجة جديدة من الليبيين إلى البلاد الصيف الماضي قد عقد الأمور، بسبب تنوع انتماء هذه المجموعات الأيديولوجي والسياسي. ورداً على سؤال طرحه بركات عما إذا كان اللاجئون يجلبون السياسة الليبية معهم إلى الداخل التونسي، أجابت مزيودات أنهم اتُهِموا مرة بأنهم يحاولون إثارة المشاكل إلا أنّ الحكومة أخذت موقفاً صارماً ضد انخراطهم في السياسة التونسية. قالت مزيودات إن القلق الأبرز هو كيفية مساعدة الليبيين، لا سيما وأن أغلبهم فقد الثقة بالسلطات الليبية ويخشون اللجوء إلى السفارة الليبية. وأفادت أن الليبيين يعيشون حالياً “حالة توقّف”: فهم ليسوا بحاجة إلى تأشيرة دخول، مما يسمح لهم بالعيش مختبئين، إلا أنّ ذلك يمنعهم في الوقت نفسه من الحصول على وظائف. وقالت إنّ هذا يشكّل تحدّياً أمام السلطات التونسية، نظراً لصعوبة جمع معلومات عن هؤلاء الليبيين. وأشارت مزيودات إلى أنّ أعدادهم ارتفعت من 1,5 مليون ليبي بحسب تقديرات الحكومة (أي نحو 10 بالمئة من الشعب التونسي) إلى بين 300 و400 ألف ليبي وفقاً لأحدث الدراسات.
وقالت مزيودات إنّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين شجّعت الليبيين على تقديم أنفسهم والتسجيل، إلا أنّ كثيرين رفضوا ذلك. وذكرت أنّ تسليم تونس لرئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية تسبّب بضجة كبيرة وأرعب الكثير من الليبيين. قالت مزيودات إنّه على الرغم من أنّ منظمات المجتمع المدني قد فعلت الكثير لمساعدة اللاجئين الليبيين، إلا أنّ الأمم المتحدة أعطت الأولوية لاحتياجات أخرى كما وأنّه لم يتم الاعتراف بتونس كبلد مضيف من قبل المجتمع الدولي. وأضافت أن بعض الليبيين حالياً ليسوا قادرين على تغطية نفقاتهم، ونتيجة لذلك أصبحت بعض النساء تمارسن البغاء.
من جهّتها، شدّدت ميغان برادلي على الحاجة إلى اتباع نهج شامل لأزمة النزوح في ليبيا وعلى أهمية التفكير في العلاقات بين اللاجئين والنازحين داخلياً. وأوضحت أن الحلول الدائمة المقبولة لكلا المجموعتين هي نفسها: الاندماج المحلي في بلد اللجوء أو المجتمع حيث يتم إيواؤهم، أو إعادة التوطين في بلد أو مجتمع ثالث، أو العودة الطوعية إلى الوطن في ظل ظروف تستوفي شروط السلامة والكرامة. وأشارت برادلي إلى أنّ التوقعات تكون بشكلٍ عام أن تكون العودة إلى الوطن هو المقاربة السائدة بين اللاجئين والنازحين داخلياً الليبيين، على غرار ما حدث بسرعة كبيرة بعد الثورة. وقالت إنّ ذلك كان ممكناً إلى حد كبير لأن الليبيين كانوا قادرين على دفع تكاليف عودتهم – الأمر النادر في حالات النزوح. كذلك، إن العديد من الليبيين النازحين ما زالوا يعتمدون على مواردهم الخاصة، إلا أنّ برادلي حذّرت أنّ هذه الموارد ليست مستدامة.
تكلّمت برادلي عن أربع نقاط. أولا، أكّدت أنه بموجب القانون الدولي، يجب أن تكون عودة النازحين طوعية. وقالت إن الغالبية العظمى من المنفيين الليبيين لديهم مخاوف أمنية مشروعة ولا بد أن يستفيدوا من الحماية ضد الإعادة القسرية، الذي يعرف بأنه طرد الأفراد المعرضين للخطر. ثانياً، قالت برادلي إنّ الوقت قد حان للتفكير في الموارد وزيادة مساهمات المانحين، وهذا بالتأكيد يشكّل تحدياً. ثمّ تحدّثت عن العدالة الانتقالية والمصالحة، مشيرةً إلى أن الطبيعة العقابية المفرطة لقانون العزل السياسي الليبي ومفهوم المسؤولية الجماعية قد زادت من نسبة النزوح على نحوٍ غير ضروري. وأخيراً، دعت برادلي لتقديم الدعم الحالي بشكلٍ من شأنه إرساء الأسس لحلول دائمة، مثل إدراج الأطفال الليبيين في المدارس، وتوفير الرعاية الصحية الكافية لهم، ومساعدتهم على الخروج من الحياة في الظل.
حين سأل بركات عن الدعم الأوروبي لتونس، أشارت برادلي أن للدول الأوروبية دوراً كبيراً يمكن أن تؤدّيه. في الوقت نفسه، قالت إنّ الحكومة التونسية لم تطلب المساعدة من هذه الدول بشكٍ كافٍ. أما في ما يتعلق بأزمة الهجرة عبر البحر المتوسط، فطالبت برادلي والمتحدثان الآخران المجتمع الدولي، ولا سيما الاتحاد الأوروبي، بالتركيز بشكلٍ أكبر على حل أزمة الفراغ السياسي في ليبيا وفي أماكن أخرى في القارة، بينما يتم السماح بإعادة التوطين وهجرة اليد العاملة القانونية في الوقت نفسه. ورداً على ما قاله أحد الحضور بأنه لا يتعين اعتبار الليبيين لاجئين لأنهم لا يزالون يتلقون منحاً من المؤسسات الليبية، أجابت برادلي أن صفة لاجئ ليس لها علاقة بالوضع المادي، إنما بالحاجة إلى الحماية. من جانبها، أضافت مزيودات أنّ بعض الليبيين بلّغوا عن تعليق رواتبهم، ربما بسبب جرم سابق، مما جعلهم معوزين.
أدان شرقية عدم الاعتراف باللاجئين في تونس، مشيراً إلى أن هذا الأمر يعد ملائماً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والحكومة التونسية لأنه يحد من التزاماتهما. إلا أنه قال إنّ العديد من النازحين داخلياً سيعودون إلى وطنهم بشرط وجود سيادة قانون فعالة ونظام قضائي موثوق به، وإلا فهم لن يجازفوا. واختتم بركات الندوة قائلاً إنه، ونظراً للصراعات المستعصي حلّها، قد حان الوقت لاعتماد مقاربة إقليمية لمعالجة القضايا الناتجة عن أزمة النزوح.