في 9 يناير 2015، نظّم مركز بروكنجز الدوحة ندوة سياسية تناولت الانتقال السياسي في ليبيا ومستقبل البلاد في ظلّ العنف الحاصل والتحديات الأمنية الداخلية. شارك في هذه الندوة محمد الجارح، زميل غير مقيم في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط؛ وجمعة القماطي، رئيس حزب التغيير؛ وأسامة كعبار، مستشار أول فى مركز الدراسات الاستراتيجية بالدوحة. أدار إبراهيم شرقية، نائب مدير مركز بروكنجز الدوحة، هذه الندوة التي حضرها أعضاء المجتمع الدبلوماسي والأكاديمي والإعلامي.
استهلّ أسامة كعبار المناقشة مقرّاً بالتطورات السياسية السريعة في ليبيا منذ الثورة التي قامت في العام 2011 قبل الانتقال إلى انتقاد المحادثات التي تقام في جنيف برعاية الأمم المتحدة لإنهاء الأزمة الراهنة. وأشار إلى “التسويات الدولية التي فُرضت على ليبيا”. بالإضافة إلى ذلك، قال إنّ تمّ اختيار الشخصيات الليبية المتواجدة في جنيف للمشاركة في المحادثات لتمثيل وجهة نظر الغرب أكثر منه لتمثيل وجهة نظر ليبيا بخصوص الأحداث الراهنة. غير ذلك، أكد كعبار أن الحلول المقترحة في محادثات جنيف لن تعكس إلا المصالح الشخصية للمشاركين، بدلاً من مراعاة مصلحة الليبيين جميعاً. وتابع ملقياً الضوء على دور التدخلات الأجنبية في زيادة حدة الصراع الحالي وتطويل مدته، لا سيما دور مصر والإمارات العربية المتحدة. أخيراً، ختم بالإشارة إلى أن الانقسامات الراهنة بين صفوف الثوريين أعاقت العملية السياسية وقال: “أدعو الله أن يلهمنا العثور على وسائل للتواصل”.
من جهته، بدأ محمد الجارح بعرض سياق تاريخي عن السنوات الأربعة الماضية في ليبيا مشيراَ إلى النتائج المحتملة على البلاد. وأشار إلى جرائم العنف العديدة التي رافقت الثورة حتى خارج أرض المعركة، كاغتيال الجنرال عبد الفتاح يونس والاغتيالات التي طالت مئات من الشخصيات البارزة في ليبيا. قال إنّ هذا الفراغ الأمني وغياب الملاحقة القانونية الناجحة لهذه الجرائم قد دفع الليبيون إلى تفضيل الأمن، وحتى حكماً يتولاه مجلس عسكري، على أي مظهرٍ من مظاهر العملية الديمقراطية، وذلك من أجل الحد من العنف ولبناء دولة مستقرة. بالإضافة إلى ذلك، أشار إلى أن هذه المشاكل تفاقمت بسبب زيادة أعداد المقاتلين المسلحين الذين يحملون راية “الثوريين” من نحو 30 ألف إبان الثورة الأولى إلى أكثر من 250 ألف. نتيجة لذلك، شدد الجارح على أن الجنرال خليفة حفتر “استفاد من هذه الإخفاقات” واستغل هذه الرغبة القوية بين الناس بالتمتع بالأمن والاستقرار للفوز بالدعم الشعبي من خلال “عملية الكرامة”.
بالإشارة إلى الوسائل المحتملة للخروج من الأزمة الراهنة، حذّر الجارح من مخاطر الصراع الممتد لا سيما في ظلّ تضرر معظم المؤسسات الليبية جراء القتال. وقال إن ثلاث مؤسسات فقط تقف بين ليبيا وإخفاق الدولة المطلق: المصرف المركزي، وزارة النفط، ودائرة الاستثمار. وحذر كذلك من احتمال التدخل الدولي، سواء على شكل “منطقة عازلة” على طول الحدود مع مصر أو تدخل فرنسي عبر تشاد. وأخيراً، أشار إلى أن الاتفاق بين معظم الأطراف في جنيف يجب أن يُستتبع، حتى وإن لم يوقع الجميع على ذلك، بعزل الأصوات المتطرفة والتركيز على المشاركين الراغبين بالمشاركة في الحوار.
قدّم المحاور الأخير، جمعة المقاطي، تحليلاً للوضع في ليبيا في ما يتعلق بافتقارها إلى المؤسسات وإلى بناء الدولة. أشار المقاطي أن ليبيا باتت دولة ريعية، بسبب وجود احتياطي كبير من النفط والغاز الطبيعي، وأضاف أنه رغم تأمين خدمات الرعاية في البلاد إلا أن وتيرة التطور الاجتماعي-الاقتصادي كانت بطيئة. وأشار إلى أنّ هذا الأمر قد حثّ تطوير ثقافة الحوار أو التعايش في ليبيا. بالإضافة إلى ذلك، أشار إلى أن غياب المؤسسات ترك الليبيين في حالة من الفراغ الكامل على مستوى الإدارة والحكم بعد الثورة، فراغ زاد من حدة المنافسة بين مختلف المجموعات في خضم سعيهم إلى ملء الفراغ الحاصل في السلطة.
بينما عارض القماطي الأمثلة الواضحة التي تبيّن التدخل الأجنبي وكذلك حملة “الكرامة” التي أطلقها حفتر، أكد أن محادثات جنيف لم تكن “مؤامرة” ضدّ ليبيا. وبدلاً من ذلك، أشار إلى أن المحادثات والمفاوضات كانت جزءاً أساسياً لتخطي الصراع الحالي وإرساء المؤسسات الضرورية في البلاد.
سُئل المحاورون بعد ذلك عن دور الثوريين في المشهد السياسي على مدى السنوات القليلة الماضية. صرّح كعبار أنه تمّ تهميش الثوريين وحُرموا من القدرة على المشاركة في العملية السياسية. وأضاف أن بروز عدد من المجموعات الثورية “الخيالية” لطخت صورة الثوريين الحقيقيين وأعاقت قدرتهم على حماية الثورة. بالإضافة إلى ذلك، أفاد كعبار أنه بعد أن بدأ مصطفى عبد الجليل بمكافأة الثوريين مادياً، ازداد عدد الثوريين “الخياليين” كثيراً. من جهته، أشار الجارح إلى أنّ عدداً من الثوريين طالبوا بالشرعية الثورية فوق أي شرعية ديمقراطية، مما أعاق العملية الدمقراطية.
بعد ذلك، ناقش المحاورون احتمال تمدد الصراع في ليبيا. أشار شرقية أنه منذ مايو 2014 ساءت الأوضاع في ليبيا إلى حدّ كادت الأمور تشابه “حرباً أهلية حقيقية”. وشدد أنّ أهمية ليبيا الجيوستراتيجية عنت أن القوى الخارجية المهتمة لن تسمح لأي طرف تحقيق نصرٍ حاسم، مشيراً إلى الحرب الأهلية في لبنان كمثال.
وصف القماطي الوضع الراهن بحربٍ بالإنابة، مشيراً إلى التدخل الخارجي في ليبيا على المستويين العسكري والمالي. وأضاف قائلاً أن الأطراف التي تتدخل في البلاد سعت لتحقيق مصالحها الخاصة وليس مصالح ليبيا. بينما أشار إلى التدخل التركي والقطري الكبير في ليبيا على الصعيد المالي بعد الثورة، أكد أنه تمّ توزيع هذه المساعدة بالتساوي بين الأطراف كافةً. وفي هذا الصدد قال: “مخطئ من يقول أن قطر تدعم الإسلاميين فقط أياً كانت هويته”. وأشار القماطي بعد ذلك إلى أن تدخل الدول في خلال السنة الأولى من الثورة خدم الليبيين، إلا أن التدخل الأخير من قبل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر هدف إلى “إلغاء مفهوم تحول ليبيا إلى دولة ديمقراطية”.
سأل أحد الحضور المحاورين عما إذا كانوا يعتقدون أن “النموذج التونسي” كان ناجحاً، وما الذي يمكن أن تتعلمه ليبيا من التجربة التونسية. أشار كعبار أن عدداً من الليبيين لا يعتقدون أن النموذج التونسي كان ناجحاً. وأشار إلى أن الانتخابات التونسية شكلت “انقلابا ضدّ الديمقراطية”، مع استمرارية الدولة العميقة. بالإضافة إلى ذلك، أضاف كعبار أنه حتى الدستور التونسي لم يأتِ بتغيرات مهمة بالمقارنة مع الدستور القديم. من ناحية أخرى، اختصر الجارح قائلاً إنه يعتقد أن النموذج التونسي هو الأنجح بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات. وأضاف أن “الأحكام الجديدة لللعبة” ستمنع الرئيس التونسي المنتخب حديثاً السبسي من التحول إلى ديكتاتور جديد بسبب ثقافة الديمقراطية الجديدة في تونس.