في 29 أكتوبر 2013، نظّم مركز بروكنجز الدوحة ندوةً استضاف في خلالها الجنرال السير ديفيد ريتشاردز، رئيس هيئة الأركان العامة البريطانية السابق والمستشار العسكري السابق لرئيس الوزراء البريطاني بين عامي 2010 و2013. ركز السير ديفيد على تأثير التدخل العسكري على بناء الدولة والتعليم، والدور الذي تؤديه استراتيجية عسكرية فعالة في التأثير على هذه النتائج. وقد أشرف سلمان شيخ، مدير مركز بروكنجز الدوحة، على إدارة هذا الحوار وذلك بحضور أعضاء من الفئات الدبلوماسية، والتجارية ووسائل الإعلام في قطر.
أشار السير ديفيد في كلمته الافتتاحية إلى أهمية وجود استراتيجية شاملة وواضحة من شأنها أن تحدد ما إذا كان تدخّل دولة ما عسكرياً أمراً ضرورياً. برأيه، لا يجوز على أي دولة التدخل إلا لو درست إنهاء الصراع القائم بشكل مقبول. ولما كان بإمكان القوات المسلحة وحدها أن تربح المزيد من الوقت وأن تفسح المزيد من المجال أمام تنفيذ حلّ سياسي، لا بدّ من تحضير “خطة تدخّل” من شأنها إرساء السلام من خلال مبادرات اجتماعية واقتصادية وسياسية بمجرد انتهاء القتال.
وأضاف الجنرال معرباً عن أسفه أن معظم التدخلات التي حصلت مؤخراً اتسمت بمنطق استراتيجي ذي تركيز تكتيكي قصير المدى ضعيف الجذور. مما أدى على حدّ قوله إلى ضعف التنسيق والتواصل بين مختلف القطاعات المعنية في تنفيذ استراتيجية التدخل، لا سيما وأن كلّ طرف يبتعد عن الآخر ويتقوقع في محيط نشاطه الخاص أو “صومعته”. ذكّر السير الحضور بقول سان تزو بأن “الاستراتيجية من دون تكتيكات هي أبطأ الطرق إلى النجاح؛ والتكتيكات من دون استراتيجية هي مجرد ضجيج يعلو قبل الهزيمة”.
شدد السير ديفيد أن العديد من القادة السياسيين، ورغم استعدادهم لخوض الحرب، لا يأخذون تماماً بعين الاعتبار الآثار الإنسانية الخطيرة التي قد تنتج عن تدخلات مماثلة على المجتمع والمؤسسات المحلية، بما في ذلك نظم التعليم. كما أنهم لا يدركون في شكلٍ كافٍ الصعوبات التي يطرحها تنسيق مختلف عناصر الاستراتيجية العسكرية الفعالة. ونتيجةً لذلك، حذر من أن “معظم عمليات التدخل ستؤدي إلى تفاقم محنة الشعب على الأقل لبعض الوقت”، مما يثير تساؤلات حول شرعيتها حتى في ظلّ عقيدة واجب الحماية.
ورداً على سؤال حول دور الجيش في بناء الدولة، قال السير ديفيد إن مثل هذه الجهود “لا ينبغي شطبها”، إلا أنه نصح بتطبيق الدروس المستقاة من الماضي في شكلٍ صحيح إزاء ما قد ينشب من صراعات في المستقبل. وبالنظر إلى الوراء إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، استشهد برؤية إعادة بناء ألمانيا الاستراتيجية بعد العام 1945، والتي تضمنت إعادة تشكيل الحكومات المحلية والإقليمية الوظيفية في شكلٍ سريع، بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة التي أمنتها خطة مارشال في أوروبا الغربية.
وقارن ذلك مع غزو العراق في العام 2003، واصفاَ إياه بأنه “عملية تكتيكية بارعة غارقة في كارثة استراتيجية”. أشار السير ديفيد إلى عملية الغزو هذه بوصفها “الطفل المدلل لحرب لم يفكر فيها أحد” واعترف بالحجج التي تقول إن الغزو أضعف القطب العلماني للسلطة مقابل النفوذ الإيراني. وانتقد أيضاً غياب التخطيط طويل الأجل في التدخل الليبي في العام 2011، حيث فشلت القات التي تدخلت في توفير التمويل والدعم المؤسسي لليبيا في مرحلة ما بعد القذافي، رغم وجود دورات تخطيط واسعة بين المسؤولين البريطانيين وأعضاء التحالف الآخرين.
لاحظ السير ديفيد أن التدخلات العسكرية كانت في ما مضى ناجحة، في حالات على غرار كوسوفو في العام 1998، وتيمور الشرقية وسيراليون في العام 2000، لكنه أشار إلى أنها شكلت مشاريع حظيت بموارد صحيحة وتمّ تنفيذها بعد تفكير طويل. وذكر أيضاً أن العمليات في أفغانستان في الفترة الممتدة بين عامي 2001 و2002 كانت مدروسة جيداً بما فيه الكفاية، لكنه أشار إلى أن “لمسة أقوى” في البلاد، وخاصة في ما يتعلق بالعمليات المدنية، كانت من الممكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل. في رأيه، لم يصل الاستثمار في الأنشطة غير العسكرية إلى مستويات ملائمة حتى تدفق القوات الأمريكية في عهد الرئيس أوباما في العام 2009.
ورداً على مزيد من الأسئلة حول النتائج في أفغانستان، أشار السير إلى إجماع واسع من قبل الأطراف الفاعلة في أفغانستان والدول المجاورة الراضية عن التقدم الذي تمّ إحرازه منذ العام 2001، معترفاً أن “آمال كبيرة” أولية لمستقبل أفغانستان لم تتحقق. وأشار إلى استطلاعات الرأي التي تبين أن الغالبية العظمى من الأفغان يريدون التمسك بالمكاسب التي تحققت حتى الآن، مع حوالي 7 ملايين طفل يرتادون المدارس وبدء تحسن الاقتصاد الوطني. واعتبر نجاح الانتخابات المقبلة عنصراً حيوياً لمستقبل البلاد، لاسيما في ظلّ وجود مرشحين ذات مصداقية مثل عبد الله عبد الله وأشرف غاني.
وبالحديث عن التعليم، مدح السير ديفيد دول الخليج لإدراكها أهمية التعليم في تشكيل مستقبل أفغانستان في وقت أبكر بكثير مما فعلت الدول الغربية. تدرك مختلف الأطراف المعنية حالياً أهمية الاستراتيجيات طويلة الأجل، مثل التعليم، لبناء أفغانستان آمنة ومستقرة. كذلك، حذر من أن طفرة استثمارية في مجال التعليم لا تتلائم مع نمو اقتصادي وفرص عمل قد تهدد ببعض المتاعب، كأن لا يجد أولئك الذين يتخرجون منفذاً لتطلعاتهم.
وتعليقاً على دور باكستان الواسع في أفغانستان، قال السير ديفيد أنهم رأو في دعم باكستان لطالبان خلال التسعينيات دعماً “منطقياً جداً”. ومع ذلك، وبينما اعترف بأن باكستان ترغب بأفغانستان مستقرة تحت حكم طالبان في ذلك الوقت، ولا سيما في ضوء فرار حوالي 6 ملايين لاجئ أفغاني إلى باكستان في الفترة الممتدة بين عامي 1993 و1995، شدد على أن المواقف بدأت تشهد تحولاً بعد أحداث 11 سبتمبر. أدرك القادة الباكستانيون، مثل الجنرال برويز مشرف، في شكلٍ كبير اهتمام بلادهم بأفغانستان آمنة ومستقرة لا تسيطر عليها حركة طالبان، لا سيما في ضوء تزايد قوة حركة طالبان في المناطق القبلية الباكستانية.
وبالنظر إلى الأمام، أكد السير ديفيد على الحاجة إلى إدراج طالبان في العملية السياسية، رغم العداء الذي يشعر به الكثير من الأفغان تجاه الجماعة. بينما يسلم أن بعض المتشددين داخل الجماعة لا يرغبون في المشاركة في المناقشات، أشار إلى أن مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة قبلت بهذه الضرورة. وعلى غرار ذلك، فيما يتعلق بعناصر القاعدة الموجودين في سوريا، شدد على ضرورة التمييز بين العناصر “المتشددين” و”المرافقين المؤقتين” في محاولات للانخراط مع جماعات مماثلة أو لمواجهتها.
ورداً على سؤال حول إمكانية حدوث عمليات عسكرية في سوريا، أجاب السير ديفيد: “إذا كنت تريد خوض الحرب، قم بالأمر في شكلٍ صحيح”. وانتقد اللغة التي يعتمدها بعض السياسيين بشأن “التهديد بالتوقف عن القيام بأمر معين” معتبراً أن مثل هذا الهجوم التحذيري يمكن ببساطة أن يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا من دون تأمين الأهداف الاستراتيجية. وعلى غرار ذلك، وبينما أكد على ضرورة احتواء الصراع السوري، حذر أنه حتى المحافظة على ممر إنساني داخل سوريا عن طريق القوة سيؤدي أيضاً إلى الحرب. وإن لم يكن يعارض العمل العسكري، حذر من أن تحسين الوضع سيتطلب موارد “تتخطى شهية… مختلف البلدان التي تلاحق هذه الحرب”.
عندما أُفسِح المجال أمام الأسئلة، سأل أحد الحضور السير ديفيد عن الصعوبات في التوفيق بين الصراعات الداخلية بين أمراء الحرب المتنافسين في أفغانستان والجماعات المسلحة. أكد السير ديفيد الحاجة إلى توفير “فرصة ثانية” لمختلف الأطراف المعنيين لإيجاد حلّ مستقر، مشيراً إلى الانتخابات المقبلة كفرصة مناسبة. رغم التوترات الإثنية الضمنية، أشار السير ديفيد إلى قوة الهوية “الأفغانية” الواسعة الحالية بين سكان البلاد، كما يتضح من التحالفات السياسية المتعددة الإثنيات التي تظهر في خلال الفترة التي تسبق الانتخابات المقرر عقدها العام المقبل.
وحين سُئل عن تأثير تداعيات الحرب في العراق على الجهود الرامية إلى التدخل في سوريا، لاحظ السير ديفيد أن شعوراً “بالملل من الحرب” قد سيطر في الولايات المتحدة بعد الفشل الاستراتيجي في العراق، مما يعرقل الجهود الرامية إلى التدخل في أماكن أخرى. في حين شدد على أن حجم الأزمة الإنسانية في سوريا مضافاً إلى خطر الجماعات المتطرفة المتزايد سيثير في نهاية المطاف رداً على سوريا، وكرر أن استجابة مماثلة برزت على نطاق منع مختلف البلدان من التدخل في الوقت الحاضر.