يأتي سقوط نظام الأسد في أعقاب حرب أهلية استمرّت قرابة 14 عاماً وخلّفت آثاراً وخيمة على سوريا، من نزوح جماعي وانهيار اقتصادي إلى تآكل في مؤسّسات الدولة. وفي حين تمثّل المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام الأسد نقطة تحوّل بارزة، لا تزال سوريا تواجه تحدّيات اقتصادية واجتماعية هائلة. وتلقي تجارب دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي شهدت تغييرات في قيادتها أو انهيار أنظمتها منذ عام 2011، الضوء على تعقيدات التحوّلات السياسية. ففي اليمن وليبيا والسودان، مثلًا، أدى غياب الاستقرار إلى اندلاع صراعات أهلية طويلة الأمد، وانقسامات داخلية، وخسائر بشرية فادحة. وتعكس هذه السوابق حجم التحدّيات التي ستواجهها سوريا في رحلة تعافيها، ما يستدعي اعتماد إستراتيجيات سياسية واقتصادية دقيقة للحدّ من المخاطر وتحقيق استقرار دائم وسلام مستدام.
نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوة عبر الإنترنت شارك فيها خبراء في الشأن السوري لاستكشاف الدروس والعبر التي يمكن لسوريا والمجتمع الدولي تعلّمها من تجارب الدول العربية الأخرى التي خاضت غمار تجارب مماثلة من التحوّلات السياسية منذ العام 2011. وتناولت الندوة الأسئلة التالية: ما هي أوجه التشابه والاختلاف بين سوريا ودول الربيع العربي الأخرى؟ كيف يمكن لسوريا أن تحدّد مساراً نحو مستقبل سلمي ومزدهر وتحافظ عليه؟ ما الدروس والعبر التي ينبغي على الحكومة السورية المؤقتة والانتقالية تعلّمها من تجارب تغيير الأنظمة في دول أخرى في المنطقة؟ وما الذي ينبغي على المجتمع الدولي تعلّمه من التحوّلات السياسية في دول الربيع العربي الأخرى لدعم مستقبل سوريا؟
علاء قاسم، الرئيس التنفيذي لشركة “ديب روت” للاستشارات
- يتحدّد المسار الذي تسلكه الدول عقب الأزمات بجملة من العوامل، أبرزها مآلات الصراعات وتوازن القوى وحجم الموارد المتاحة. ويجب على سوريا أن تعي خصوصيّة ظرفها، وأن تستخلص في الوقت نفسه العبر من تجارب الدول العربيّة التي خاضت مراحل انتقالية مشابهة.
- في اليمن، طغت عملية انتقال سياسي موسّعة، بما يشمل حوار وطني مطوّل وصياغة الدستور، على معالجة المسائل الاقتصاديّة. فتفاقمت الاضطرابات الاقتصاديّة، ما أسفر عن تصاعد الاستياء الشعبي وتراجع التأييد للعملية الانتقالية. إذاً، على سوريا ألّا تغفل البعد الاقتصادي فيما تعيد هيكلة نظامها السياسي.
- إنّ إثقال أجندة الإصلاح بالبنود قد يُفضي إلى نتائج عكسية. فقد سعى اليمن إلى تنفيذ حزمة واسعة من الإصلاحات دفعة واحدة، بدءاً من إعادة هيكلة الموازنة مروراً برفع الدعم ووصولاً إلى مكافحة الفساد، ما أنهك المؤسّسات. لذا يجب على سوريا أن تنتهج مساراً تدريجياً يركّز على تحقيق أهداف واقعية، بدل السعي إلى تغيير شامل دفعة واحدة.
- كثيراً ما يبالغ المجتمع الدولي في توقّعاته من الحكومات الانتقالية. ففي اليمن، ضغطت أطراف خارجيّة من أجل إحراز تقدّم سريع، ما أدّى إلى قرارات متسرّعة ووعود لم تُنفّذ. ومن هنا، يجب على سوريا أن تضمن انسجام شراكاتها الدولية مع قدراتها واحتياجاتها الفعلية، لا أن تكون رهينة للإملاءات والضغوط الخارجية.
- غالباً ما تعتقد القوى الخارجية أنّها قادرة على “إدارة الفوضى”، غير أنّ مثل هذه الإستراتجيات أثبتت فشلها مراراً وتكراراً. ففي اليمن ودول أخرى، سعت أطراف إقليمية ودولية إلى التأثير في مجريات الأحداث عبر دعم فصائل محدّدة أو التدّخل في شؤون الحكم. بالتالي، يجب على سوريا أن تتوخى الحذر من أيّ تدخّل خارجي يقدّم المصالح الإقليمية والدولية على حساب اعتبارات استقرارها الوطني.
- الدمج والتفاوض عنصران أساسيّان لضمان نجاح المرحلة الانتقالية. ويتعيّن على قادة المرحلة الانتقالية إتقان فنّ التفاوض من خلال تقديم تنازلات محسوبة من دون التفريط بزمام المبادرة. كما أنّ الانخراط الجاد مع مختلف الفصائل، بما فيها قوى المعارضة والمجتمعات المهمّشة، سيكون ضرورياً من أجل تحقيق إجماع وطني واسع حول بنية الحكم الجديدة في سوريا.
آية جراد، باحثة وأستاذة مساعدة للدراسات الأمنية والعدالة الجنائية، تونس
- واجهت المرحلة الانتقالية في تونس اضطرابات حادّة بسبب غياب القدرة على توقّع مآلات الأمور وتضعضع الثقة بمنظومة الحكم. فقد انصبّ التركيز على التغييرات القانونية والإجرائية، مثل صياغة الدستور وتنظيم الانتخابات، من دون الالتفات إلى الأسباب العميقة للمظالم الاجتماعية والاقتصادية. بالتالي، بقي الاستقرار بعيد المنال وتراجعت الثقة تدريجيّاً بالمؤسّسات الديمقراطية.
- لقد أدّى الغموض الدستوري وصراع الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، إلى طريق مسدود عطّل فاعلية الحكم. وقد تفاقمت الاضطرابات السياسية في ظلّ غياب محكمة دستورية فاعلة تفصل في النزاعات. ومن دون ترتيبات واضحة لتقاسم السلطة، تخاطر سوريا بتكرار أخطاء التجربة التونسية وما ينجم عنها من بيئة سياسية هشّة.
- شكّل تنفيذ الاتفاقات السياسية وضمان الاستقرار المؤسّسي تحدّياً كبيراً في تونس. فعلى الرغم من التوصّل أحياناً إلى تسويات مؤقّتة، غالباً ما كانت تنهار بسبب ضعف آليّات التنفيذ. وإذا ما تكرّر هذا السيناريو في سوريا، فقد يؤدّي إلى تجدّد حالة غياب الاستقرار، حيث تُبرم الاتفاقات لكنّها تفشل في نهاية المطاف نتيجة غياب التنفيذ والمساءلة.
- لقد جعل التغيير المتكرّر للحكومات في تونس عملية وضع السياسات طويلة الأمد أمراً مستحيلاً، فقد تعاقب على البلاد أكثر من عشر حكومات في غضون عقد واحد. وتعثّرت الإصلاحات الاقتصادية مراراً، إمّا بسبب التخلّي عنها أو تعديلها، ما حال دون تحقيق تقدّم فعلي. ويجب على سوريا أن تضمن استمرارية الحكم وحسن تنفيذ السياسات للحفاظ على الاستقرار وتهيئة بيئة جاذبة للاستثمارات.
- كان لفشل العدالة الانتقالية وتعثّر إصلاح القطاع الأمني تأثير كبير في زعزعة الاستقرار في تونس. إذ سرعان ما خضع مسار العدالة الانتقالية للتسييس، فيما واصلت الأجهزة الأمنية ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، ما قوّض ثقة المواطنين بالمؤسسات. ويجب على سوريا أن تستفيد من هذه التجربة، من خلال ضمان شفافيّة آليّة العدالة، وإعطاء الأوليّة لإصلاح القطاع الأمني.
- فاقمت الضغوط الاقتصادية، ولا سيّما تلك الناتجة عن إجراءات التقشّف التي فرضها صندوق النقد الدولي، معاناة المواطنين العاديين، بينما بقيت النخب في منأى عن تبعاتها. وقد اعتبر كثيرون هذه السياسات مجحفة، ما أجّج مشاعر السخط وأذكى الحنين إلى الحكم السلطوي. يجب على سوريا أن تتجنّب اعتماد سياسات اقتصادية تُلقي العبء الأكبر على الفئات الأفقر، لما قد يسبّبه ذلك من نقمة شعبية واسعة.
- اقتصر دور المجتمع المدني في تونس على تأدية دور الوسيط، دون أن يكون شريكاً حقيقيّاً في الحكم. وفي حين اكتفى بالمراقبة، كان الأجدى أن يشارك بفعالية في صنع القرار. أمّا في سوريا، فإنّ نجاح المرحلة الانتقاليّة يتطلّب مجتمعاً مدنيّاً فاعلاً، قادراً على تعزيز المساءلة وتمثيل التنوّع الاجتماعي بمختلف أطيافه.
طارق المجريسي، زميل سياسي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية
- لا يمكن لثورة أن تنجح في غياب الاستقرار الاقتصادي. فإذا عجزت المرحلة الانتقالية عن تأمين فرص العمل وضمان الأمن الغذائي وتعزيز التمكين الاقتصادي، فسرعان ما ستفقد زخمها الشعبي. في تونس وليبيا، أدّى الركود الاقتصادي بعد الثورة إلى تصاعد السخط على مسار التحوّل، ما أفسح المجال أمام عودة القوى السلطويّة أو المناهضة للتغيير. ويجب على سوريا أن تُولي النهوض الاقتصادي أهميّة موازية لإعادة هيكلة النظام السياسي.
- في كثير من الدول التي مرّت بفترات انتقالية بعد ثورات الربيع العربي، احتكرت النخب السياسية القرار، فهمّشت المواطنين العاديين واستبعدتهم من المشاركة في صنع القرار. وإذا اتّبعت سوريا النهج ذاته، فقد تواجه خطر فقدان ثقة الشارع وضعف الشرعية وتجدد دوّامة عدم الاستقرار.
- ستسعى القوى الخارجية، خصوصاً المناهضة للثورة، إلى تقويض مسار المرحلة الانتقاليّة في سوريا. ويضفي انخراط الأطراف الإقليميّة والدوليّة ذات المصالح المتشابكة مثل إسرائيل وروسيا والولايات المتّحدة، المزيد من التعقيدات على المشهد. إذ قد تلجأ هذه الجهات إلى استغلال الانقسامات الداخلية ودعم فصائل متنافسة. ومن هنا، لا بدّ أن تصون سوريا سيادتها الوطنية، وتُحصّن نفسها من التدخّلات الخارجية.
- اعتماد تونس على الاقتراض بعد الثورة أغرقها في أزمة اقتصادية مزمنة، ما يسلّط الضوء على دور الدين الخارجي في عرقلة مسار التقدّم. لذا يجب على سوريا أن تفاوض بحذر بشأن أي دعم مالي، لتجنّب الوقوع في نموذج اقتصادي غير مستدام.
- عانت الدول ما بعد الثورات ضعفاً مؤسّسياً وتراجعاً في الفعاليّة البيروقراطيّة، إذ اعتمدت حكومات كثيرة في المنطقة على قطاع عام متضخّم لتوفير الوظائف، ما جعل إصلاح الحكم أمراً بالغ الصعوبة. ويجب على سوريا أن تضمن إعادة هيكلة مؤسّسات الدولة على أسس من الكفاءة والاستدامة، بعيداً عن منطق الزبائنية السياسية.
- يمكن لتفكّك المنظومة الأمنية أن يزعزع مسار أي عمليّة انتقالية. ففي ليبيا، أدّى الفشل في دمج الميليشيات ضمن جيش موحدّ إلى اضطرابات طويلة وصراعات مسلّحة بين الفصائل. ويجب على سوريا أن تتّخذ خطوات حاسمة لتوحيد الأجهزة الأمنية ومنع التشرذم، وترسيخ هرمية قيادة واضحة، لتفادي الانزلاق نحو الفوضى.
اختُتمت الندوة عبر الإنترنت بطرح رؤى حول المسار المستقبلي لسوريا، مع التشديد على أهمية الإصلاح التدريجي وتعزيز الاستقرار المؤسسّي وتحقيق التعافي الاقتصادي. أمّا جلسة الأسئلة والأجوبة، فتطرّقت إلى تأثير الجهات الدولية والعقوبات والوحدة الوطنية، وقد أكّد المتحدّثون على ضرورة تبنّي نهج إستراتيجي في التعامل مع القوى الخارجيّة والحفاظ على السيادة الوطنية. وركّزت النقاشات على أهميّة الحكم التشاركي، محذّرة من التسرّع في تنفيذ إصلاحات اقتصادية قد تُلقي بأعبائها على المواطنين العاديين. واختُتمت الندوة بنبرة تفاؤلية، مع الدعوة لاستخلاص العبر من التجارب الانتقالية السابقة لضمان مستقبل مستقر ومزدهر لسوريا.