تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديّات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة خطيرة تتراوح بين الاحتجاجات الشعبية والصراعات الأهليّة وتزايد تقلّبات الاقتصاد الكلّي وأزمات الحوكمة التي تؤدّي إلى تآكل العلاقات بين المواطن والدولة. لقد أثّرت الحرب على غزة بشكل كبير في السياسة الخارجيّة والدبلوماسيّة داخل المنطقة وخارجها، حتى وأنّ الأزمة الجيوسياسيّة والإنسانيّة الناجمة عنها امتدّت إلى البلدان المجاورة. في الوقت نفسه، تأتي هذه التحدّيات المحلّية في سياق أوسع من التغيير الهيكلي على المستوى العالمي، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، إعادة التنظيم الجيوسياسي وتغيّر المناخ والتحوّل التكنولوجي. وستتطلّب مواجهة هذه التحدّيات الداخليّة والخارجيّة من مراكز البحوث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التنظيم والتعاون في ما بينها لتحقّق معاً أقصى تأثير في السياسات على مستوى المنطقة.
وفي هذا السياق، نظّم معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركية في بيروت ومجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة منتدى مراكز البحوث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مقرّ المجلس في العاصمة القطريّة، الدوحة، يومي 23 و24 سبتمبر 2024. واستقطب المنتدى نخبة من ممثّلي مراكز البحوث والخبراء في المنطقة لمناقشة سبل التعاون بين هذه المراكز والمؤسسات لمعالجة التحدّيات التي تواجه المنطقة وتعزيز مرونتها وتأثيرها الجماعي. وناقش المشاركون أيضاً آليّات عمل شبكة مراكز البحوث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي سبق أن طُرحت في اجتماع طاولة مستديرة في فبراير 2023.
وفي الجلسة الافتتاحيّة للمنتدى الذي تألّف من أربع جلسات، أكّد كلٌّ من جوزيف باحوط، مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدوليّة، وطارق يوسف، مدير مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة، على الحاجة الملحّة إلى إيجاد مسارات للتعاون والتنسيق بين مراكز البحوث في المنطقة مع الحفاظ إستقلاليّتها. واتفق آخرون مع هذا الرأي، مستعرضين الجهود التي تبذلها مؤسّساتهم لدعم بلدانهم والمنطقة في مواجهة التحدّيات المحليّة والإقليميّة. وسلّط المشاركون الضوء على القواسم المشتركة في عملهم، مشيرين أيضاً إلى الاختلافات المهمة. وشدّد عدد من المشاركين على الحاجة إلى إشراك أصحاب المصلحة خارج نطاق صانعي السياسات، إدراكاً منهم لصعوبة التأثير في السياسات في البلدان التي شهدت تضييقاً كبيراً على الحيّز المدني.
أمّا الجلسة الثانية، فتناولت الحرب على غزة. وبعد أن تطرّق مدير الجلسة إلى آخر التطورات بشأن الإبادة الجماعيّة المستمرّة، طرح أسئلة منها: لماذا تقوم مراكز البحوث بالعمل الذي تقوم بها؟ من هم الذين تستهدفهم في عملها هذا؟ وما هو تأثير عملها؟ وكيف يمكن لهذه المراكز التعاون بشكل أفضل بشأن غزة وفلسطين على نطاق أوسع؟ واتفق المشاركون على ضرورة أن يكون الفلسطينيون محور أي نقاشات حول مستقبل غزة وفلسطين. وناقشوا جدوى إعادة النظر في العلاقة مع المؤسّسات في الغرب، مشدّدين على أهمية خلق مساحات للمناقشات الصريحة وسط تزايد الاستقطاب وتقلّص الحيّز المدني، كما ناقشوا الدور الذي يمكن أن تضطلع به مراكز البحوث في تحديد السردية السائد بشأن المنطقة. وأشار أحد المشاركين إلى ضرورة أن تعالج مراكز البحوث مسائل تجاهلها البعض لفترة طويلة، على غرار مستقبل الإصلاح السياسي وإرساء الديموقراطية والتكامل الاقتصادي في المنطقة.. ومن بين التوصيات التي قدّمها المشاركون، اقترح استضافة زملاء من فلسطين، وخاصة من الشباب ومجال الإعلام، بالإضافة إلى دعم الباحثين العرب والفلسطينيين الذين يركّز عملهم على الدراسات الفلسطينية الإسرائيلية.
خلال الجلسة الثالثة، ناقش المشاركون القضايا الأكثر أهمية التي تعمل عليها مؤسّساتهم بعيداً عن الحرب على غزة وكيفيّة معالجتها، مشيرين إلى أنّ المنطقة تواجه أزمات غير مسبوقة ويجب على مراكز البحوث العمل معاً لوضع إستراتيجية مستقبليّة. وعلى مراكز البحوث أيضاً تقييم دورها في دعم عملية صنع القرار والتأثير فيها. واتّفق المشاركون على أنّ الشبكة عليها أن تحدّد النقاط المشتركة لضبط أولويّتها مع احترام هوية كل مؤسسة وهدفها وبنيتها. ومن بين القضايا الإقليمية، الصراعات وبناء السلام، والتغيّرات الديموغرافية، والتجارة، والانخراط مع الجنوب العالمي، والعدالة الاجتماعية والإنصاف، والمياه، والطاقة، والأمن الغذائي، وتغيّر المناخ والتدهور البيئي، والهجرة والمغتربين، والتفتت الديني والسياسي في دول المنطقة وبينها. وتضمّنت التوصيات المقترحة في هذه الجلسة إجراء تمارين استشرافية، وإجراء تحليلات لأصحاب المصلحة والنظام البيئي، والعمل المشترك لوضع إستراتيجية ورؤية وأهداف محدّدة لشبكة مراكز البحوث. وبشكل عام، اتّفق المشاركون على أنّ هذه لحظة تحوّل حاسمة للمنطقة وأنّهم يمكنهم تحقيق المزيد من خلال العمل الجماعي.
ركّز اليوم الثاني للمنتدى على شبكة مراكز البحوث المقترَحة. فتعمّق المشاركون خلال جلسة مطوّلة في الحاجة إلى شبكة إقليمية لمراكز البحوث والأهداف التي يجب أن تتبنّاها. وناقشوا المصادر المحتملة لتمويل الشبكة، وبنيتها وآليات عملها، فضلاً عن معايير العضوية، واتفقوا على تطوير هذه الأفكار بشكل أكبر قبل انعقاد الجمعية العمومية للشبكة، مشدّدين على ضرورة أن تتبنّى المؤسسات الأعضاء قيم الشبكة وعلى رأسها الاستقلالية في العمل. وبالبناء على تجارب شبكات مماثلة، أكّد أحد المشاركين أهمية بناء شعور قوي بالملكية بين الأعضاء منذ البداية والعمل على استدامته. وفي ما يتعلّق بالإدارة والمعايير الأخرى، أشار المشاركون إلى ضرورة التحلّي بالمرونة والحفاظ على مساحة للمدخلات الفردية من أعضاء الشبكة. بشكل عام، اتّفق المشاركون على ضرورة أن تطلق مراكز البحوث الإقليمية منصة – شبكة – لتبادل المعرفة والبيانات والخبرات على أساس القيم المشتركة.
وأعلن المنتدى في جلسته الاختتامية عن إطلاق شبكة مراكز البحوث في العالم العربي. والهدف من هذا التعاون الإقليمي هو تعزيز تأثير مراكز البحوث في السياسات الإقليمية، على أن يتولّى معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدوليّة أمانة الشبكة للسنة الأولى، ,تنسيق الاجتماعات والفعاليات، وتسهيل الحوار، بالإضافة إلى ضمان تنفيذ الأهداف المشتركة بين المؤسّسات الأعضاء. وتقرّر تنظيم اجتماعات دوريّة للشبكة، على أن تُعقَد النسخة الثانية من المنتدى في 2025، بالاستناد إلى مخرجات هذا الاجتماع لتعميق أواصر التعاون بين مراكز البحوث في جميع أنحاء المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، اتفق المشاركون على الفعاليات الرئيسة التي تنظّمها الشبكة، بما في ذلك جمعية عامة سنوية ومؤتمر سنوي، وإعداد قائمة بالخبراء الإقليميين والمنشورات البحثية، وإتاحة الفرصة للزملاء والباحثين غير المقيمين، بالإضافة إلى التدريب وبناء القدرات والمشاركة الجماعية في المبادرات العالمية.