لقد غيّرت الحرب على غزة مسار التطبيع والتهدئة المستمرّ الذي كانت تشهده منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فهي تعيد رسم معالم السياسات الإقليمية الداخلية وعلاقات المنطقة مع الجهات الفاعلة الخارجية. وفي هذا السياق، نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوةً عبر الإنترنت لمناقشة تداعيات حرب إسرائيل المستمرّة على غزة وانعكاساتها على الديناميات الإقليمية. وشارك في الندوة التي أدراها غالب دالاي، زميل أول غير مقيم في المجلس، كلّ من ابتسام الكتبي، رئيسة ومؤسسة مركز الإمارات للسياسات؛ ودانيال ليفي، رئيس مشروع مركز أبحاث الشرق الأوسط الأمريكي؛ وتيترا بارسي، نائب الرئيس التنفيذي في معهد كوينسي؛ وولي نصر، أستاذ كرسي مجيد خدوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدّمة في جامعة جونز هوبكنز.
افتتحت الكتبي الجلسة مسلّطةً الضوء على التداعيات العميقة للحرب على الاصطفافات الإقليمية. وأشارت إلى أنّ الحرب على غزة عرقلت عمليات التطبيع بين السعودية وإسرائيل من جهة، وإيران والسعودية من جهة أخرى. وأدّت التحوّلات بعد 7 أكتوبر إلى تهميش الفاعلين باعتبارهم مفسدين محتلمين، ما أبرز ضعف المبادرات الدبلوماسية في المنطقة. وأضافت الكتبي أنّ الصراع القائم أكّد على تنامي نفوذ الجهات الفاعلة غير الحكومية، ودفع إلى إعادة تقييم السياسات الخارجية في المنطقة مثل التوجّه نحو اتفاقات إبراهيم والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا في ظل التوجّه نحو نظام متعدّد الأقطاب ومراعاة اعتبارات جيو اقتصادية أخرى. وأشارت الكتبي أيضاً إلى أنّ الوجود الأمريكي في المنطقة قبل 7 أكتوبر كان يتضاءل، لكن بعد ذلك عادت واشنطن للانخراط مع دول المنطقة.
من جهته، ركّز ليفي على الأهمية المتزايدة للقضية الفلسطينية في سياسات المنطقة. فقد أشار إلى أنّ العالم أظهر دعمه لفلسطين من خلال الحشد والتعبئة، ما يعكس مشاعر التضامن في وجه الظلم داخل المنطقة وخارجها. لكنّ الدول الموقّعة على اتفاقات إبراهيم لم تسحب توقيعها من اتفاقات التطبيع التي عقدتها مع إسرائيل بالرغم من الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. ومع ذلك، يدلّ قطع تركيا علاقاتها التجارية مع إسرائيل كما وقطع كولومبيا علاقاتها الدبلوماسية معها على أنّ إسرائيل تفقد مصداقيتها على صعيد العالم. وأضاف ليفي أنّ إسرائيل ليست دولة قادرة على ممارسة دور التهدئة في المنطقة لأنّها عاجزة عن إيجاد حلّ سياسي واضح بشأن الفلسطينيين. وقال ليفي في نهاية مداخلته إنّ عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل تسير على قدمٍ وساقٍ.
وقام بارسي بعدها بتحليل مكانة إيران الإستراتيجية قبل الحرب على غزة وبعدها. وأشار إلى أنّها انتهجت سياسة الصبر الإستراتيجي قبل 7 أكتوبر، وتأقلمت مع فكرة عدم إمكانية تخفيف العقوبات عنها بشكل دائم. فحوّلت تركيزها إلى إقامة شراكات تجارية مع دول المنطقة لتجاوز العقوبات، ما أفقد الولايات المتحدة قدراً من نفوذها في المفاوضات مع إيران. لكنّ الهجوم الإسرائيلي على قنصلية إيران في دمشق عرقل هذا النهج، ودفع طهران إلى الردّ بأول هجوم مباشر لها على إسرائيل. وقال بارسي أيضاً إنّ مسار العلاقات بين السعودية وإيران يشهد تقلباتٍ بعد أحداث 7 أكتوبر، وتشير التبادلات الدبلوماسية الأخيرة إلى تصاعد التوترات بينهما وتدنّي أواصر التعاون حالياً بشكل غير مسبوق. لكن أكّد بارسي على أنّ دول خليجية محدّدة منعت الولايات المتحدة من استخدام قواعد عسكرية داخل أراضيها لشنّ هجمات على إيران.
ثمّ شدّد نصر على غياب الوضوح في إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه المنطقة. فصحيح أنّ الشرق الأوسط شهد فترة من التهدئة النسبية قبل 7 أكتوبر، لكنّ الأحداث التي تلت هذا التاريخ أظهرت فشل السياسات الأمريكية في إدارة الممارسات الإسرائيلية وتبديد مخاوف الحلفاء الأمنية في المنطقة. من جهة أخرى، أشار نصر إلى أنّ السعودية والولايات المتحدة تقتربان من إبرام اتفاق أمني، وأكّد على رغبة الرياض في إدراج بندٍ نووي في أي اتفاق تبرمه، ما قد يزيد من تغيّر موازين القوى في المنطقة.
وفي جلسة الأسئلة والأجوبة التي تلت النقاش، تناول نصر تداعيات هذه الاتجاهات على دور الصين وروسيا في منطقة الشرق الأوسط. فمن الملحوظ أنّ الدولتَين ستستفيدان من نفوذهما على طهران لمنع توجيه التصعيد نحو الدول الخليجية. وقال ليفي من جهته إنّ الصهيونية تحت المجهر لأنّ البعض يعيد تقييم قدرة إسرائيل المتضائلة على توفير السلامة والأمن. ورداً على سؤال حول إمكانية تنظيم مؤتمر دولي بشأن فلسطين، استبعد نصر احتمال تنظيم مؤتمر كهذا وشكّك في مدى فعاليّته في معالجة القضية الفلسطينية. ففي ظل تكثيف إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة، يرى نصر أنه من غير المرجّح حدوث نقاش أو تطوّر فعّال، وخصوصاً أنّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية المرتقبة قد تؤخّر ذلك بالرغم من تشابه سياسات بايدن وترامب بشأن القضية الفلسطينية.