اتّجهت دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة نحو آسيا بشكل مطّرد. واليوم تشهد العلاقات بين الطرفَين نمواً ملحوظاً يطال الأبعاد الأمنية والسياسية إلى جانب العلاقات الاقتصادية الوطيدة. وللبحث في هذه الديناميّات، نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوةً عامة ضمن فعاليّات منتدى الدوحة بعنوان: “آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي: تعزيز الشراكة”. وضمّت الندوة مجموعة خبراء بارزين لإجراء بحث معمّق في تطوّر العلاقات بين المنطقتَين. وأدارت الزميلة الأولى في المجلس دانيا ظافر الجلسة التي شارك فيها كلّ من جاسم محمد البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي؛ ويو بنغ بنغ، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة بكين؛ وعبد العزيز صقر، رئيس مركز الخليج للأبحاث؛ وشوجي هوساكا، مدير مركز المعهد الياباني لاقتصاديات الشرق الأوسط وعضو مجلس إدارة المعهد الياباني لاقتصاديات الطاقة؛ بالإضافة إلى نيلانجان غوش، مدير مؤسسة “أوبزرفر” للأبحاث في الهند. وفي خلال الندوة، بحث المشاركون في الخطوط العريضة للعلاقات بين آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي قبل التعمّق في مناقشة تداعيات الأحداث الجيوسياسية الأخيرة، ولا سيّما الحرب في غزة، على هذه العلاقات.
حدّدت ظافر مسار النقاش عبر تسليط الضوء على التحوّلات الديناميّة الأخيرة التي طرأت على العلاقات بين آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي. فقد أشارت إلى أنّ نطاق العلاقات التجارية المعتادة توسّع ليطال التعاون في مجال الطاقة والتحالفات السياسية. وشدّدت على إمكانية انخراط الدول الخليجية في منظمات مثل منظمة شانغهاي للتعاون ومجموعة البريكس، ممّا يعكس حصول تحوّلات جيوسياسية ملحوظة. وتطرّقت ظافر أيضاً إلى جهود الوساطة التي بذلتها الصين بين السعودية وإيران، ما يدلّ على التحوّل من المصالح التجارية البحتة إلى الاضطلاع بدور سياسي أبرز.
ثمّ أسهب البديوي في الحديث عن العلاقات التاريخية التي تجمع آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي. وشدّد على أنّ هذه الأخيرة تبذل جهوداً مستمرة لتوسيع شراكاتها خارج حدود التحالفات التقليدية مع الغرب لتشمل أفريقيا ومنطقة الكاريبي. وركّز بشكل خاص على الجهود الشاملة لدول مجلس التعاون الخليجي التي ترمي إلى تعزيز العلاقات مع آسيا، وهو ما يتجلّى في حجم التبادل التجاري الضخم بين الطرفَين. وفي هذا السياق، أشار بنغ بنغ إلى دور الصين في دول مجلس التعاون الخليجي، مسلّطاً الضوء على المصالح المشتركة بينهما. وشدّد على أنّ الصين تستورد كمّيات كبيرة في مجال الطاقة من دول المجلس وتتعاون معها في ميادين مختلفة، مثل الطاقة المتجددة، والاقتصاد الرقمي، والرعاية الصحية. وأشار بنغ بنغ أيضاً إلى أهميّة العلاقات بين الشعبَين ودورها في توطيد العلاقات بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي.
وتمحور النقاش بعدها حول الإستراتيجيات الوطنية الفردية ضمن هذه الديناميّات الإقليمية الأوسع نطاقاً. وتناول صقر الأسلوب الذي تعتمده السعودية تجاه آسيا. وأشار إلى أنّه بالرغم من التسليم بوجود علاقات اقتصادية وطيدة، لا تُعتبر الدول الآسيوية بديلاً عن حلفاء الغرب خصوصاً في الشؤون الأمنية. فالسعودية تنظر إلى الدول الآسيوية على أنّها محاور إقليمية مهمّة، لكنّها تحافظ على تحالفاتها الأمنية مع الولايات المتحدة وأوروبا. وعقب ذلك تحدّث هوساكا عن تطوّر العلاقات بين اليابان ومنطقة الخليج وتعويل اليابان على هذه المنطقة بصفتها شريك أساسي في الطاقة، مشيراً إلى إمكانية توسيع نطاق التعاون بينهما في ميادين جديدة، مثل تقنيات تخزين الهيدروجين والأمونيا والكربون. وهذا ما يعكس الأسلوب الإستراتيجي الذي تنتهجه اليابان بهدف تنويع مصادرها من الطاقة وتعزيز علاقاتها التكنولوجية مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وقبل اختتام الجولة الأولى من الجلسة، بحث غوش في الممرّ الذي يربط الهند بالشرق الأوسط، وسلّط الضوء على أهميّته في توطيد العلاقات بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي، ودوره في إمكانية إنشاء أسواق المنتجات وعوامل الإنتاج لتحسين المرونة الاقتصادية وتخفيف تكاليف المعاملات. وأشار غوش إلى أنّ هذا الممرّ امتدادٌ لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الموقّعة مع الإمارات في العام 2022، مما يعكس تنامي الاعتماد المتبادل والمصالح المشتركة بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي.
تقييم تداعيات الحرب في غزة
في الجولة الثانية من الجلسة، تعمّق المتحدّثون في مناقشة تداعيات الحرب في غزة على العلاقات بين آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي، وكشفوا عن جوانب التداخل المعقّد بين الصراعات الإقليمية والتحالفات الدولية.
ووجّه البديوي النقاش نحو الديناميّات المتغيّرة في العلاقات الدولية بعد اندلاع الحرب في غزة. فقد ركّز على زيارة الوزراء العرب إلى الصين ضمن جولتهم لتعزيز جهود الوساطة، وأشار إلى أنّ هذه الجولة عكست جهود دول مجلس التعاون الخليجي الرامية إلى دعم التعاون الإقليمي مع الحلفاء العالميين. ثمّ توسّع بنغ بنغ في الحديث عن دور الصين المتنامي في الشرق الأوسط. فتطرّق إلى مقترحاتها الجديدة ضمن الإطار الأمني، مثل إجراء حوار عابر لمنطقة الخليج والدعوة إلى حلّ الدولتَين، مما يدلّ على تعزيز الصين تعاونها السياسي مع الشرق الأوسط.
وبحث المتحدثون أيضاً في الاعتبارات الإقليمية وسط الحرب المتفاقمة، كلٌ بحسب منطقته. فقد عرض صقر وجهة نظر السعودية، مشيراً إلى نشوء عمليات إعادة توافق إستراتيجي وزيادة ملحوظة في الزيارات الدبلوماسية والتفاعلات بين آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي. وتحدّث أيضاً عن التداعيات المحتملة للتصويت على وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة لما قد يحمله من تحوّلات كبيرة في العلاقات الدولية.
ثمّ تناول هوساكا موضوع استخدام اليابان القوة الناعمة في المنطقة، مثل التأثيرات الثقافية، عن طريق وسائل الإعلام مثلاً. وأشار إلى أنّ اليابان تضطلع بدور متوازن دقيق في الحرب في غزة لتحاول إظهار موقف التوازن في عمليات الإجماع التي تتوصّل إليها مجموعة السبع والتي تميل إلى دعم إسرائيل. وتطرّق غوش في نهاية المداخلة إلى تداعيات الحرب في غزة على الممرّ الذي يربط الهند بالشرق الأوسط. فقد اعترف بالتكاليف الاجتماعية الناجمة عن صراعات كهذه، لكنه أبدى تفاؤله إزاء متانة العلاقات بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي مشدّداً على المصالح والمنافع المشتركة التي تعزز هذه الشراكة.
وقدّم المتحدثون بشكلٍ عام تحليلات شاملة وثاقبة بشأن العلاقات المتشابكة بين المنطقتَين. وشدّدت الجلسة على أهمية فهم الطبيعة المتعددة الأوجه للعلاقات بين آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي، ولا سيّما في ظلّ مشهد جيوسياسي سريع التطوّر. وأكّدت على ضرورة قيام شراكات إستراتيجية عميقة وتعاون فعّال بهدف تجاوز التعقيدات التي تكتنف البيئة العالمية الراهنة.