بعد شهر على اندلاع الاشتباكات بين القوات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع في الخرطوم، نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوةً عبر الإنترنت في 15 مايو 2023 للاطلاع على وجهات نظر الخبراء حول موضوع المواجهة العسكرية الدائرة في السودان والسُبل الممكنة للمضي قدماً. وشارك في الندوة التي أدارها عادل عبد الغفار، زميل ومدير برنامج السياسة الخارجية والأمن في المجلس، كل من ريدي بريكيتيب، باحث أول وأستاذ مشارك في معهد الشمال الأفريقي في جامعة أوبسالا؛ ونسرين الأمين، أستاذة مساعدة في الأنثروبولوجيا والدراسات الأفريقية في جامعة تورنتو؛ ومات ناشد، صحفي مستقل ومحلل سياسي. وبحث المشاركون في خلفية الصراع التاريخية، ودور الجهات الفاعلة الخارجية، بالإضافة إلى إمكانية بناء السلام.
افتتحت الأمين النقاش بعرض خلفية السودان التاريخية وتداعيات ماضيه الاستعماري. وأشارت إلى أنّ السودان ورث عن بريطانيا، غداة نيله الاستقلال في العام 1956، نظاماً اقتصادياً يعتمد على استخراج الموارد والتصدير ويعود بالفائدة على النُخب السودانية الذين كرّروا استخدام أساليب استعمارية لاستغلال المجموعات المهمّشة في البلاد. ثمّ استفاضت الأمين في حديثها عن انقلاب العام 1989 في السودان الذي أدّى إلى تسلّم القائد العسكري عمر البشير مقاليد الحكم، والذي نتج عنه تشكيل تنظيمات قمعيّة لحماية سلطة البشير. وكان تشكيل قوات الدعم السريع والقوات المسلّحة السودانية أمراً مهماً. فقوات الدعم السريع لم تعمل فقط على سحق المعارضة وتصعيد الصراع في دارفور، إنّما “شكّلها البشير لممارسة أعماله المشينة” على حدّ تعبير الأمين. وبالرغم من حلّ النقابات العمالية وقمع الاحتجاجات، ظلّت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعتبران قوات الدعم السريع هيئةً شرعية في السودان وعلى الصعيد العالمي. وعندما طالت موجة الاحتجاجات والثورات الشعبية في الشرق الأوسط دولة السودان في العام 2018، برز زخم شعبي في الخرطوم للإطاحة بحكم البشير. وتوسّعت الأمين أكثر في حديثها مشيرةً إلى أنّ موازين القوى في السودان ما بعد الثورة والمفاوضات المطوّلة بين النُخب والجيش جاءت لصالح الجيش. فقد رأت أنّ انحراف الانقلابات العسكرية عن المسار الانتقالي شكّل ميزة متكرّرة في تاريخ السودان السياسي. لكنها حذّرت من أنّ تجاهل العناصر الشعبية والمحليّة في الثورة سمح للجيش بتحقيق النجاح في السودان. وبالإضافة إلى ذلك، سعت النُخب المدنية في السودان إلى حماية مصالحهم على حساب المجموعات المهمّشة في البلاد. ومع تقدّم الوقت وزيادة الدعوة إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية، كان مأمولاً أن تختلط قوات الدعم السريع بالجيش، وبالتالي إفساح المجال أمام منظمات أخرى لتولّي القيادة. لكن عوضاً عن منح فرصة لإجراء عملية انتقالية ديمقراطية شعبية، شهدت البلاد صراعاً على السلطة بين الطرفَين سعياً وراء الهيمنة السياسية والاقتصادية.
وتابع ناشد النقاش حول التوترات العسكرية المتصاعدة على الأرض، وقال إنّ الجيش يقوم مقام الدولة، فيما تبتغي قوات الدعم السريع الإقرار بأنها “كيان عابر للحدود”. ورأى ناشد أنّه يبرز مستويان من الحرب المتطوّرة في الصراع الحاصل، بحيث يستهدف الأول أي “الحرب المبسّطة” المدنيّين عبر ممارسة أعمال النهب والغزو، في حين أنّ الثاني أي “الحرب الإعلامية المعقّدة” يشكّل وسيلةً يحاول كلّ طرف من خلالها أن يلفّق للآخر تهمة انتهاك اتفاقيات السلام والاتفاقيات الدولية. وأكّد ناشد على ضرورة أن يقوم المشاهدون ووسائل الإعلام الدولية والمجتمع الدولي بتقييم نقدي لهذه الأعمال والحملات الدعائية المترافقة.
ثمّ سأل عبد الغفار عن طبيعة المواجهات ونطاقها. فردّ ناشد بوجود عاملَين قادرَين على زيادة مدّة المواجهات، إذ يملك كلّ من قوات الدعم السريع والقوات المسلّحة السودانية الموارد والخبرات اللازمة للانخراط في اشتباكات مسلّحة متواصلة. ومع انهيار اقتصاد البلاد، يبرز التنظيمان بوصفهما موقعَين مموّلَين دولياً لتوظيف العاطلين عن العمل. وأشار ناشد إلى أنّ أيّاً من قوات الدعم السريع أو القوات المسلّحة السودانية سيقبل بوقف إطلاق النار أو التفاوض لحين امتلاك أحدهما نفوذاً كبيراً على الآخر. وبالإضافة إلى ذلك، تنتظر الجهات الفاعلة الخارجية، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إعلان الفائز بين الطرفَين. لكن لا بدّ من اعتماد أسلوب أكثر واقعيةً من خلال الاستثمار بطرف ثالث من مجموعات المجتمع المدني بهدف تخفيف سيطرة الجيش على الاقتصاد.
وتابع عبد الغفار النقاش بالطلب من بريكيتيب أن يقيّم دور الجهات الفاعلة الخارجية في الصراع الدائر. فشدّد بريكيتيب على ضرورة أن ينبثق حلّ ناجع من الداخل السوداني، إذ من المحتّم أنّ أيّ تدخل خارجي يتجاوز تمكين المجتمع المدني سيزيد حدّة التوترات. وأشار إلى أنّ السودان لا يملك جهازاً تمثيليّاً كان بإمكانه دعم الفئات المهمّشة في المجتمع، مما حال أيضاً دون تشكيل هويّة سودانية متجانسة وقوية. ثمّ انتقل بريكيتيب إلى تحديد الجهات الفاعلة الخارجية التي تتواصل مع السودان. فالعلاقة بين الدول الخليجية والسودان تعود إلى آلاف الأعوام، وتتخلّلها روابط تاريخية وسياسية واقتصادية وثيقة. ومنذ سقوط حكم البشير، تحافظ مصر على روابطها الوثيقة مع النظام العسكري في السودان. وفي المقابل، تبتغي الدول المجاورة المباشرة للسودان أن يقرّر مستقبله السياسي بنفسه بمنأى عن التدخلات الخارجية.
وتحدّثت الأمين عقبها عن استثمارات السعودية والإمارات والاستيلاء على الأراضي. وأكّدت على أنّ الجيش السوداني يحظى بدعمٍ من مصر، كما أنّ قوات الدعم السريع عملت سابقاً بإسم السعودية في اليمن بوصفها منظمة عابرة للحدود ذات فعالية كبيرة. وأشارت الأمين إلى أنّ معظم الجهات الفاعلة الخارجية تسعى إلى حماية مصالحها، وبالتالي إضفاء الشرعية على هذه المجموعات العسكرية وتجاهل طموحات مجموعات المجتمع المدني في السودان وحاجاتها. فعوضاً عن ذلك، ينبغي للمجتمع الدولي أن يركّز في المقام الأول على وقف القتال وتمكين مجموعات المقاومة المدنية والمحلية والتنظيمات التي أنشأها العاملون على الأرض. ووافق ناشد وبريكيتيب كلاهما على رأي الأمين الذي يشير إلى ضرورة أن تقوم الجهات الفاعلة الخارجية بتعزيز ثقافة السودان الليبرالية الفريدة من النقابات العمالية والقبائل العرقية ومجموعات المقاومة.
وفي جلسة الأسئلة والأجوبة التي تلت النقاش، حدّد المشاركون أيضاً سُبل المساعدة بشكل أوضح للمجتمع الدولي. فقد أشار ناشد إلى الحاجة الملحّة لتزويد النقابات العمالية والمستشفيات بنقود أجنبية مباشرة أمام ارتفاع أسعار العملة في السوق السوداء، وشدّد على أهمية إيصال أصوات العاملين على الأرض. وبدورها، ذكّرت الأمين بالتداعيات المدمّرة للصراع على الاقتصاد والزراعة في الريف السوداني، وأهمية دعم النقابات والمنظمات الأخرى في هذا القطاع.