نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوةً عبر الإنترنت في 12 أبريل 2023 لمناقشة تداعيات الانتفاضة الثانية التي شكّلت منعطفاً حاسماً في التاريخ الفلسطيني، والتطرّق إلى مخلّفاتها وتأثيرها في المستجدّات الأخيرة والواقع الحالي. وشارك في الندوة التي أدارها الزميل ومحرّر مدونة أفكار عمر حسن عبدالرحمن ، كلّ من رمزي بارود، محرّر صحيفة “Palestine Chronicle“؛ ونور عودة، محلّلة سياسية فلسطينية.
افتتح عبدالرحمن النقاش بعرض موجز للأحداث التي تسبّبت في اندلاع الانتفاضة الثانية. فقمّة كامب ديفيد التي عُقدت في يوليو عام 2000 قبل بضعة أشهر من اندلاع الانتفاضة الثانية وضعت حدّاً لعملية سلام كارثية بدأت عام 1993 باتفاقيّة أوسلو. وكان من المفترَض أن تُتوَّج بمفاوضات الوضع النهائي في غضون خمسة أعوام، لكنّ الأوضاع الميدانية في الأراضي المحتلّة بقيت تتدهور. وقد انطلقت شرارة الانتفاضة الثانية عقب الزيارة المستفزّة المتعمّدة والمشينة التي قام بها أرييل شارون للمسجد الأقصى يرافقه حوالى ألف حارس مسلّح. وأثارت الزيارة احتجاجات الفلسطينيين في القدس، قابلتها القوات الإسرائيلية بقمعٍ عنيفٍ تمخّض عن موجة احتجاجات تحوّلت إلى تمرّد واسع النطاق.
ثمّ طلب عبدالرحمن من عودة أن تتوسّع في الحديث عن العوامل المسبّبة للانتفاضة الثانية. فأشارت إلى أنّ ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية آنذاك أدركا وصول المحادثات بوساطة أمريكية إلى طريق مسدود. وأجمع الفلسطينيون أيضاً على ضرورة رسم مسار مختلف نحو التحرّر من الاحتلال والتأكيد على حقوقهم بدون الحاجة إلى أن يثبتوا للمحتلّ أنّهم جديرون بالمفاوضات و”تدابير المساعي الحميدة”. وفضلاً عن ذلك، كانت السياسة الإسرائيلية تتّجه نحو التيار اليميني بالرغم من الموقف التقدّمي لرئيس الوزراء في حينها إيهود باراك. وأشارت عودة إلى أنّ الاحتجاجات الأوّلية تصاعدت نتيجة الأسلوب القمعي التي انتهجته القوات الإسرائيلية والعنف الذي مارسته ضدّ الفلسطينيين. وقد اتّسم هذا القمع باعتداء شبه مباشر على السلطة الفلسطينية التي أُصيبت بشلل تامّ نتيجة الاستهداف المنهجي لمبانيها ومؤسساتها وبنيتها التحتية وتدميرها. وأضافت أنّ القيادة الفلسطينية والأجيال الأكبر سنّاً (50 عاماً وما فوق) اتّجهتا نحو تأييد اعتماد أسلوب أكثر إذعاناً وصموداً تجاه إسرائيل انطلاقاً من أنّ الولايات المتحدة والدول العربية لن تدعما فلسطين، فيما أشارت إلى أنّ الأجيال الأصغر سنّاً أرادت التحرّر من إسرائيل بدون الحاجة إلى إبداء حسن النيّة تجاهها. وقد أسهمت الانتفاضة الثانية في توسيع هذه الفجوة السياسية وتغيير شروط الحوار.
وسأل عبدالرحمن عودة ما إذا كانت الانتفاضة الثانية تشبه غيرها من الأحداث التي شهدها التاريخ الفلسطيني، بما فيها الانتفاضة الأولى. فشدّدت على وجود عدد من الاختلافات الكبيرة بين الانتفاضتَين، إذ أنّ الأولى كانت انتفاضة شعبية تخلّلتها مظاهرات حاشدة في ظل غياب المؤسسات الرسمية الفلسطينية وحكمها، فيما الثانية تحوّلت سريعاً إلى تمّرد للمقاومة المسلّحة مع وجود عدد أكبر من المؤسسات الفلسطينية مثل السلطة الفلسطينية. وعلاوةً على ذلك، سرعان ما تراجعت المشاركة الفعالة للحشود الشعبية عندما اندلعت الاشتباكات المسلّحة، فقادت الفصائل الفلسطينية بمجموعاتها المسلّحة الجهود المبذولة على الأرض. وترى عودة أنّ الانتفاضة الثانية شكّلت أيضاً بداية سقوط الفصائل الفلسطينية التي فُضح أمرها لغياب الرؤية والقيادة السياسية. ولعلّ حركة حماس والجهاد الإسلامي اكتسبا زخماً أكبر، لكن عموماً شهدت المرحلة أزمة خلافات داخل السياسة الفلسطينية لم يتعافَ منها المجتمع.
وتابع بارود النقاش مشيراً إلى معنى “الانتفاضة” في ضوء المزاعم الأخيرة بشأن وجود انتفاضة ثالثة جارية، الأمر الذي يعتبره باطلاً. فالانتفاضة الأولى اندلعت نتيجة عدد من الإخفاقات في المؤسسات الفلسطينية، بما فيها الارتباط المتضائل لمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها منبراً صالحاً للمقاومة الفلسطينية. ومع نشوء موجة جديدة من القيادة انبثقت عن المجتمع الفلسطيني، ولا سيّما عن الأوساط الأكاديمية، ذاعت خطابات سياسية جديدة في فلسطين أدّت إلى اندلاع الانتفاضة الأولى. والأمر عينه ينطبق على الانتفاضة الثانية التي تضمّنت عنصر الحشد الشعبي المشحون بالغضب نتيجة فشل عملية السلام من جهة، وتراجع الشرعية السياسية للسلطة الفلسطينية من جهة أخرى. وعلى وجه التحديد، دفعت عودة ياسر عرفات خالي الوفاض من قمّة كامب ديفيد والذل الذي تعرَض له وسائل الإعلام إلى دفاعه عن الانتفاضة الثانية كوسيلة لإعادة تأكيد مصداقيّته الثوريّة بين مناصريه. ويشير بارود في كتابَيه “أبي… ذلك المناضل: قصة غزّة التي لم تُروَ بعد” و”The Second Intifada” (الانتفاضة الثانية) إلى أنّ المجتمع الفلسطيني كان يتجهّز لانتفاضة شعبية، وأنّ عرفات لم يتوقّع على الأرجح امتداد الانتفاضة الثانية لنصف عقدٍ من الزمن.
وسأل عبدالرحمن عقبها عن الروايات الشائعة بين الفلسطينيين في ما يخصّ الانتفاضة الثانية. قال بارود إنّ إحدى هذه الروايات تشير أنّ إلى أنّ الانتفاضة الثانية أعلنت نهاية اتفاقيّة أوسلو وعملية السلام، مشيراً إلى أنّها غيّرت بدورها وبشكل أساسي العلاقة بين القيادة الفلسطينية والمجتمع الأوسع نطاقاً مع تضاؤل ثقة الشعب القليلة المتبقّية في السلطة. أمّا عودة، فأشارت إلى ثلاث روايات أساسية في ما يخصّ الانتفاضة الثانية.الرواية الأولى واقعيّة تتذرّع بها منظمة التحرير الفلسطينية لحشد الدعم عبر التذكير بنضالاتها وتضحياتها، وهي رواية تحاكي الثانية التي تتبنّاها حركة حماس والجهاد الإسلامي لتعزيز دعمهما الخاص والتقليل من تأثير الآخرين. وفي المقابل، تُعتبر الرواية الثالثة متضاربة ومعقّدة بين صفوف المجتمع المدني الفلسطيني حول انتصارات الانتفاضة وإخفاقاتها، مما يذكّر ببطولة الفلسطينيين وبالفوضى والأعمال الانتقامية التي شهدتها المدن الفلسطينية. وترى عودة أنّ الجهات الفاعلة السياسية وظّفت الانتفاضة الثانية والروايات ذات الصلة في خدمة أجنداتها المختلفة، مما قوّض في نهاية المطاف شرعيّة هذه الجهات وأدى إلى اندلاع الأزمة الحالية في السلطة.
ثمّ قام بارود بتتبّع تاريخ الحركات المناهضة للاستعمار وتأثيرها في حركة فتح، مشيراً إلى أنّ هذه الحركة استمدّت إلهامها من حركات مثل الثورة الجزائرية، وقد اتّخذت جميعها شكل مقاومة مسلّحة. وبعد النجاح الذي حصده حزب الله، قابل الإسرائيليون الانتفاضة الفلسطينية بأسلوبٍ عنيفٍ خشية حدوث أمر مشابه مع لبنان ولرغبتهم في الإشارة إلى أنّ قدرتهم على الردع لم تتلاشَ. وفي غضون ذلك، كانت الفصائل الفلسطينية تكدّس الأسلحة وتستمدّ إلهامها من نموذج حزب الله.
وسلّط الضوء بارود في نهاية مداخلته على المحفّزات الاقتصادية التي توفّرها السلطات الإسرائيلية سعياً إلى تقويض المقاومة السياسية الفلسطينية من خلال تمرير الأموال إلى المجتمع الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، توفّر السلطة الفلسطينية المال لحوالى 30 في المئة من المجتمع الفلسطيني، وهي تُعدّ أكبر مشغِّل في فلسطين بتاريخ يشهد على تقديمها فرص عمل لمتظاهرين شباب مقابل تشتيتهم المظاهرات. وفي نهاية المطاف، شكّلت الانتفاضة الثانية حدثاً أساسياً في التاريخ الفلسطيني، وتركت تأثيرات دامت مع الفلسطينيين حول كيفية رؤيتهم لأنفسهم ولأهدافهم السياسية.