تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مسائل معقّدة، بما فيها الصراعات وانعدام المساواة وشحّ المياه، وسط اشتداد المنافسة الجيوسياسية والعوامل المضاعِفة للخطر مثل تغيّر المناخ. وتضطلع مراكز البحوث والمؤسسات الفكرية بدور أساسي في إيجاد حلول بشأن السياسات لهذه المسائل، لكن عليها العمل بصورة خلاّقة والتعاون في ما بينها لاجتياز مرحلة عدم الاستقرار. وفي الوقت نفسه، تواجه مراكز البحوث بدورها مجموعة من التحديات من بينها التواصل مع صانعي القرار وتأمين الموارد التشغيلية، بينما تسعى للحفاظ على استقلاليّتها. ولمناقشة هذه التحديات، نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية بالشراكة مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت طاولة مستديرة تألّفت من خمس جلسات نقاشية على مدى يومين جمعت مدراء مراكز البحوث في المنطقة وممثّلين عنها في مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورجتاون في قطر. وقام المشاركون بتقييم الفرص المتاحة أمام مراكز البحوث التي يمثّلونها والمخاطر المحدقة بها وبالمنطقة.
افتُتحت الجلسة الأولى بنقاش حول مشهد السياسات المتغيّر في المنطقة. وحدّد أحد المشاركين ثلاثة أنواع من الدول: الدول الهشّة، والدول المستقرّة نوعاً ما التي تواجه تحديات إنمائية خطيرة، ودول مجلس التعاون الخليجي التي تشهد تحديات فريدة مرتبطة بإزالة الكربون والتحوّل إلى اقتصاد قائم على المعرفة. وينبغي على مراكز البحوث أن تأخذ في عين الاعتبار هذه السياقات المختلفة عند صياغة توصيات بشأن السياسيات. وناقش المشاركون مدى ارتباط عمل مراكز البحوث بالمنطقة وتأثيرها في السياسات، حيث قال أحد المشاركين إنّه على مراكز البحوث أن تحوّل تركيزها من النماذج المتمحورة حول الدولة والموروثة من الغرب باتجاه مشاركة أكبر مع المجتمع المدني وإنتاج بحوث “من صُنع المنطقة لصالح المنطقة”، وذلك من أجل تعزيز هذا التأثير. وأشار متحدّث آخر إلى خطر أن تصبح مراكز البحوث شبيهة تماماً بالمنظمات غير الحكومية: “مراكز مشاريع” عوضاً عن “مراكز بحوث”. وعلى الرغم من وجود مسؤوليات اجتماعية لا يمكن تجنّبها، يكمن الهدف الأساسي لمراكز البحوث في إجراء بحوث غير متحيّزة لتوجيه السياسات لا للدفاع عن قضايا معيّنة. وردّ متحدّثون آخرون أنّه بإمكان مراكز البحوث الانخراط مع المجتمع المدني وصانعي السياسات على حدّ سواء، وينبغي لها أن تحقّق التوازن في هذا الانخراط لتبقى على صلة بهاتَين الفئتَين من المجتمع. كما وأنّ التعاون مع الحكومة في بعض الحالات غير ممكن، إمّا بسبب الخلل الذي يكتنفها أو بسبب مكانتها الأخلاقية المعرّضة للخطر. واعتُبرت العقود الاجتماعية المتغيّرة والعلاقة بين الدولة والمواطن من ضمن التحديات أيضاً، بالإضافة إلى الحاجة لبذل جهود تعاونية بين مراكز البحوث لإيجاد حلول. وتخلّلت النقاش اعتراضات على مصطلح “Think Tank” مركز بحوث، حيث ميّز بعض المشاركين بين مراكز البحوث والمراكز الأكاديمية وغيرها من النماذج المؤسسيّة.
وفي الجلسة الثانية، قيّم المشاركون أداء مراكز البحوث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وناقشوا كيفية تحسينه. واعتبر عدد من المتحدّثين أنّ صعوبات التمويل تشكّل عائقاً أساسياً أمام تأديتها لعملها. فمراكز البحوث التي تحاول زيادة استقلاليّتها يمكن أن تعاني صعوبات مالية، إذ تحاول فئات معيّنة من المانحين أن تؤثّر في برامج مراكز البحوث وتعيق نواتجها البحثية. أّما المسألة الأخرى التي طُرحت في الاجتماع، فكانت غياب البيانات التي لا يمكن الوصول إليها إمّا بسبب عدم جمعها أو بسبب مسائل مرتبطة بالشفافية. ولمواجهة هذه المشاكل، طرح المشاركون عدداً من الحلول الرئيسية، منها فكرة زيادة التعاون بين المراكز وإنشاء شبكة مراكز بحوث أو اتحاد لها، بحيث يمكن مناقشة المواضيع البحثية والمبادرات المواضيعية والبرامجية فضلاً عن مشاريع أخرى لتجنّب التكرار وزيادة الموارد الجماعية لمراكز البحوث إلى أقصى قدر. وحدّد المشاركون مجالات معيّنة يمكن أن يتعاون الباحثون فيها، مثل تغيّر المناخ وفلسطين وغيرها من المسائل الإقليمية ذات الصلة. وفي نهاية المطاف، يمكن أن يسهم العمل التعاوني في تحسين تبادل البيانات بين مراكز البحوث، وزيادة تأثيرها ونفوذها الجماعيَّين، وربما التخفيف من المسائل المتعلّقة بالتمويل.
وركّزت الجلسة الثالثة على السبل لتخطّي التحديات التنظيمية الداخلية. فمراكز البحوث لديها قدرات مختلفة من حيث التمويل والعلاقات مع وسائل الإعلام والمجتمع المدني والحكومات. وأشار أحد المشاركين إلى أنّه يمكن للشراكات بين مراكز بحوث صغيرة ومتوسطة الحجم ذات استقلالية أكبر المساعدة على الوصول إلى جمهور أكبر وأكثر تنوّعاً، وعلى زيادة تأثيرها. وعلاوةً على ذلك، سلّط المشاركون الضوء على دور التكنولوجيا في زيادة الفعالية والوصول إلى جمهور أكبر وزيادة استخدام الموارد إلى أقصى حدّ. من جهة أخرى، أكّد أحد المشاركين على أنّه بات أكثر مرجّحاً تقديم المانحين تمويلات للبرامج عوضاً عن تمويلهم العمليات الأساسية. وطرح مشاركٌ آخر إمكانية اعتماد نظام الاشتراك لقراءة البحوث المنشورةبهدف معالجة مشاكل التمويل، فيما رفض آخرون هذه الفكرة واعتبروها تتنافى مع هدف مراكز البحوث، أي توليد المعارف ونشرها. فضلاً عن ذلك، تتطلّب فكرة إنتاج بحوث “من صُنع المنطقة لصالح المنطقة” إيلاء الأولوية لأن تكون المنشورات وغيرها من النواتج متاحةً ومجانية للجمهور. وأمام مراكز البحوث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الفرصة والمسؤولية لأن تبقى متاحة لعامة الناس وموثوقة منهم، عوضاً عن اتباعها نموذج الغرب حيث يتزايد تحوّل مراكز البحوث إلى شركات استشارية تبيع انتاجها المعرفي والبحثي لعملاء من مؤسسات خاصة وحكومية.
وافتُتحت جلسة رابعة في اليوم الثاني، حيث ناقش المتحدّثون انخراط مراكز البحوث في المنطقة مع جهات فاعلة أخرى في عالم السياسات. وأشار المشاركون إلى الفجوة بين البحوث وتأثيرها، إذ أكّد أحدهم على أنّ مراكز البحوث بحاجة إلى اكتساب شرعيّتها وارتباطها من خلال العمل على مسائل تهمّ عامة الناس مع إبلاغ النُخب السياسية بهذه المسائل أيضاً. وأضاف مشارك آخر أنّه يجب إشراك صانعي السياسات في مرحلة مبكرة في عملية إجراء البحوث لضمان جدوى النواتج وارتباطها بالسياسات. بالإضافة إلى ذلك، شدّد أحد المشاركين على أهمية أن تُكتب التقارير البحثية بلغة سهلة ومبسّطة وأن تكون بمتناول عامة الناس ، كما شدّد مشارك آخر على حاجة مراكز البحوث إلى إشراك الجهات المعنيّة على المستويين السياسي والإيديولوجي لتجنّب سيطرة مجموعات المصالح الخاصة عليها. وبهدف زيادة فعاليتها، على مراكز البحوث أن تنشر نتائج بحوثها بطريقة ميسّرة وفي الوقت المناسب، وأن تتواصل باستمرار مع وسائل الإعلام لنشر بحوثها. ويمكن أن يُسهم التواصل مع صانعي السياسات ومجموعات المجتمع المدني في تحديد أولويات البحوث التي تجريها مراكز البحوث، والتوصّل إلى نقاشات أكثر إنتاجية بشأن السياسات.
واختُتمت أعمال الطاولة المستديرة بجلسة خامسة، حيث بحث المشاركون في المجالات التي يمكن أن تتعاون فيها مراكز البحوث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ووضعوا جدول أعمال للاجتماعات المقبلة. واقترح المشاركون التناوب في استضافة الاجتماعات المقبلة، وطرحوا إمكانية التركيز على مجالات تعاون مستقبلية، بما فيها مسائل مرتبطة بالصراعات وعدم الاستقرار وتغيّر المناخ والاقتصاد (التحوّل في مجال الطاقة) وفلسطين والأمن البشري. وبهدف إثراء التعاون بينهم، اقترحوا إنشاء مجموعة عمل تنظّم الاجتماع المقبل وتحدّد المواضيع للمناقشة. واقترحوا أيضاً إطلاق منصّة تجمع بحوثهم من دون التضحية باستقلاليّتهم، وبالتالي تعزيز تأثير جميع مراكز البحوث ومدى انتشارها. وقد سلّط النقاش الضوء على أنّ أي مشروع تعاوني يكمن في تحديد مجالات واضحة ذات اهتمام مشترك، وتجنّب البيروقراطية المفرطة مع الهيكل التنظيمي، فضلاً عن تأمين التمويل المستدام. وفي النهاية، اتّفق المشاركون على أنّ إنشاء شبكة تضمّ مراكز البحوث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشكّل أمراً أساسياً ويجب اعتباره أولوية من الآن فصاعداً.