سياسة تركيا الإقليمية الجديدة:

بين إعادة الضبط والتصعيد

ديسمبر 6، 2022

الثلاثاء، ديسمبر 6، 2022
4:00 م - 5:15 م

ملخص

نظَم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوة عبر الانترنت في 6 ديسمبر 2022 لمناقشة إعادة ضبط تركيا لسياستها الإقليمية مؤخّراً. ففيما تبنّت أنقرة مقاربة التهدئة مع الدول الخليجية وإسرائيل، اتّجهت بوضوح نحو التصعيد في سياساتها تجاه العراق وسوريا والمجموعات الكردية الإقليمية. يحدث كلّ ذلك في وقت تتحضّر فيه تركيا للانتخابات ويشهد اقتصادها انكماشاً وسط حالة من الركود. في ظلّ التطورات الأخيرة على الساحة التركية، جمع المجلس خبراء في الشأن التركي لمناقشة سياسة تركيا الإقليمية الجديدة ودوافعها. أدار الندوة غالب دالاي، الزميل الأول غير المقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وشارك فيها كلّ من إيفرين بالتا، رئيسة قسم العلاقات الدولية في جامعة أوزيجين؛ وألبير كوسكون، الزميل الأول في مؤسسة كارنغي للسلام الدولي والسفير السابق؛ وجوناي يلديز، باحث دكتوراه في جامعة كامبريدج. 

 

استهلّ دالاي الجلسة بسؤال إيفرين بالتا عن تأثير الديناميات الداخلية التركية في سياستها الخارجية. أجابت بالتا أنّ السياسة الخارجية هي انعكاس للاحتياجات السياسية الداخلية وتشكّل أداة يستخدمها القادة من أجل تحقيق طموحاتهم على الصعيد الداخلي. وترى أنّ السياسة الخارجية التركية تُعنى بحماية المصالح والاحتياجات الاقتصادية في ظلّ الأزمة التي تمرّ بها البلاد. إذ تحرّك الانتخابات السياسيين في سدّة الحكم من أجل تأمين مصادر تمويل خارجية متنوعة من خلال الاستثمارات والتجارة والقروض بغرض زيادة الإنفاق الحكومي. وقد جعل مسار تركيا نحو الحكم الأوتوقراطي حصولها على تمويل غربي أكثر تعقيداً، ما دفعها للاستدارة نحو مقرضين آخرين في الصين وروسيا والدول الخليجية. وعلى عكس الدول الغربية، تقول بالتا إنّ هؤلاء المقرضين لا يضعون شروطاً صريحة للتمويل الذي يقدمونه. 

 

وأشارت بالتا أيضاً إلى أنّ سياسة تركيا الخارجية ترتبط بمخاوفها حيال أمنها القومي. فلدى تركيا هوية ذاتية قومية راسخة ومخاوف وجودية تهدد تصورها لذاتها، تتعلق بالأقليات في البلاد، على رأسهم الأكراد، وأيضاً بالنوايا الغربية التي تهدد وحدة الأراضي التركية في أعقاب الأزمة السورية والأحداث في العراق. في رأي بالتا، السياسة الخارجية التركية هي ثمرة هذه المخاوف الداخلية التي تعبّر عن احتياجات اقتصادية وأمنية. إلى ذلك، ما السياسة الخارجية إلّا امتداد للسياسات الداخلية الشعبوية، حيث يسعى القادة لاستعراض عضلاتهم في التعامل مع الخارج أمام مواطنيهم. ويتجلى هذا الحشد للمشاعر القومية بشكل خاص مع اقتراب الانتخابات حيث يتخذ القادة مواقف أكثر شراسة في سياستهم الخارجية بهدف تعزيز مكانتهم في السلطة. 

 

انتقل بعدها دالاي للحديث عن إعادة ضبط السياسة الخارجية التركية من خلال جهود المصالحة مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر. رأى كوسكون أنّ إعادة الضبط هذه مدفوعة بعاملين. يتمثّل الأول بإدراك أنقرة أنّ العزلة التي كانت تعتمدها لم تخدم مصالحها. ففيما خصّ اليونان، شدد كوسكون على أنّ تركيا تعمل على ترميم علاقاتها مع مصر من أجل تجنب تشكيل تحالفات مناهضة لها في شرقي المتوسط، بحيث تسعى من خلال ذلك للحدّ من النفوذ اليوناني في المنطقة. وهو يتّفق مع بالتا على أنّ تركيا تسعى للحصول على التمويل من الدول الخليجية، إلّا أنّه لا يشاركها الرأي بأن هذا التمويل سيكون غير مشروط. فالتمويل الصيني مشروط بتخلي تركيا عن قضية الأيغور، فيما تُرجم التمويل السعودي بتغيير في سياسة تركيا في ما خص قضية الصحفي جمال خاشقجي. زدّ على ذلك أنّ الاقتصاد التركي لا يزال مندمجاً بشكل كبير في الاقتصاد الغربي، ما يتطلب إجراء تغيير هيكلي ضخم في حال رغبت تركيا في تنويع مصادر تمويلها.  

 

سأل دالاي بعدها كوسكون عن حظوظ تركيا في دخول منتدى غاز شرق المتوسط إثر المصالحة التي تمّت مؤخراً بينها وبين والدول الخليجية. أجاب كوكسون بأنّ واقع تركيا الاقتصادي الداخلي وتقلّص نفوذها في المنطقة بفعل سياساتها الانعزالية، يصعّبان عليها التأثير في مسار المصالحة. وعليه، فمن المستبعد أن تسمح اليونان وقبرص لتركيا بدخول المنتدى. وبعد أن ذكر دالاي أنّ تركيا تصدّرت عناوين الأخبار مؤخّراً بسبب احتمال شنّها عملية عسكرية جديدة في سوريا ضدّ وحدات حماية الشعب الكردي، طَلب من المتحدثين تحليل ديناميات هذا التصعيد في السياسة الإقليمية. أكّد يلديز أنّ التصعيد الحالي هو بشكل أساسي في مواجهة حزب العمال الكردستاني ومتفرعاته في سوريا والعراق، يضاف إليه التنافس الحتمي مع إيران.  

 

واستطرد أنّ تركيا تمزج ما بين حملات الدعاية الانتخابية واستراتيجية مكافحة التمرّد. ففي حالات التصعيد السابقة، مثلاً في يونيو، حين حشدت تركيا قواتها على الحدود السورية، كانت إيران، وليس الغرب أو روسيا، من عارض التدخلات التركية. واليوم، وبالنظر إلى ما تمرّ به إيران من مشاكل داخلية وتحرّكات شعبية كردية، ينفتح المجال أمام تركيا لدخول سوريا. بيد أنّ تركيا كانت قد استفادت من استمرار الوضع الراهن في مواجهتها مع حزب العمال الكردستاني فكبحت نشاطه في سوريا، بحيث قد يعزّز التصعيد الجديد موقف الحزب ويجمع حوله المؤيدين في المنطقة.  

 

في جلسة الأسئلة والأجوبة، ورداً على سؤال من الجمهور حول ما إذا كانت سرعة الاستثمارات كافية لتؤثر تأثيراً ملحوظاً في اقتصاد تركيا قبيل الانتخابات، قالت بالتا إنّ السيولة تتدفق إلى تركيا من الصين والدول الخليجية، وعزت تردّد تركيا في دعم العقوبات الغربية على روسيا إثر حرب أوكرانيا إلى حاجتها الاقتصادية. كما ردّت على فكرة كوكسن حول الشروط المرتبطة بالتمويل غير الغربي، فأشارت إلى أنّ الترتيبات المالية غير الغربية غالباً ما تكون غير نظامية، مما يعني أنّ المبالغ والشروط لا يُفصح عنها وتبقى طيّ الكتمان. وعادة ما تكون الشروط تبادلية، رهناً بالمسائل الداخلية السائدة في الدول المقرضة. في المقابل، يترافق التمويل الغربي مع مجموعة من الشروط الواضحة حول الديمقراطية المتصلة بسياسات تركيا ومؤسساتها.  

 

ثم انتقل دالاي إلى سؤالٍ حول مواقف أردوغان الشعبوية ومدى جاذبية تقمّصه صورة “الرجل العظيم” في الداخل التركي. أشارت بالتا إلى أنّ الخطاب الشعبوي كان من أساسيات استراتيجية أردوغان الذي أظهر تركيا كقوة عظمى ينكر عليها الغرب الاعتراف الذي تستحقّه، إلّا أنّ السياسة الخارجية تفقد اليوم بريقها لدى الناخبين المثقلين بالهموم الاقتصادية وغيرها. وأشار كوكسون إلى احتمال حصول عدد من التغييرات في السياسة الخارجية إذا ما وصلت المعارضة إلى الحكم. على سبيل المثال، قد تعمد أحزاب المعارضة إلى إعادة تمتين روابط تركيا مع الغرب، والحفاظ على سياساتها غير التصادمية مع روسيا والصين، وتجديد مسار الإصلاح الديمقراطي في تركيا. ولكن العلاقات مع سوريا سوف تبقى إشكالية لأن الارتياب هو سيد الموقف بالنسبة لكافة الأفرقاء السياسيين الأتراك وهو ما لن يتغير بتغير القيادة في تركيا. 

 

في الختام، سأل دالاي المتحدثين عما يخبئه المستقبل لمشاريع الحكم الذاتي في سوريا. توقّع يلديز أن يكون مشروع الحكم الذاتي بقيادة الإدارة الموالية لتركيا في شمال غرب سوريا هو الأقل استدامة بسبب ضعف الأداء الإداري. وأضاف أنّ حظوظ حكومة الإنقاذ السورية بالبقاء قد تكون أوفر. أمّا الكيان الثالث والأوفر حظاً، فهو الإدارة الذاتية بقيادة الأكراد، بفضل ما تتمتع به من خلفية قوية نسبياً على صعيد الإدارة. كما حذّر يلديز من أن مجموعات الدولة الإسلامية (داعش) يمكن أن تعود إلى الواجهة حال حدوث فراغ سياسي لأنّ هزيمتها لم تَطَل المستوى العقائدي، بل كانت عسكرية ليس إلّا بفعل الهجمات المستمرة من وحدات حماية الشعب الكردي والائتلاف الدولي. وفي النهاية، فإنّ بقاء هذه المشاريع ودوامها متعلّقان بطريقة حكم المجموعات وتطويرها لقدراتها الإدارية. 

مدير الجلسة

زميل أوّل غير مقيم

المتحدثون

جوناي يلديز
باحث دكتوراه، جامعة كامبريدج
ألبير كوسكون
زميل أول، مؤسسة كارنيغي، سفير سابق
إيفرين بالتا
رئيسة قسم العلاقات الدولية، جامعة أوزيجين