نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوةً عامة حضورية في 2 أكتوبر 2022 للنظر في النظام الإقليمي وتداعياته على المناقشات بشأن السياسات في الشرق الأوسط، وارتباط أبعاده بمكانة المنطقة على الساحة العالمية في ظلّ التقلبات وعدم الاستقرار على الصعيد العالمي. وسيكون لاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية تداعيات كبيرة على ديناميّات المنطقة. وأدار الزميل الأول ومدير مجلس الرشق الأوسط للشؤون الدولية طارق يوسف النقاش الذي شارك فيه الخبراء البارزون جوزيف باحوط، مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت؛ وباتريشيا هاسلاش، سفيرة سابقة للولايات المتحدة الأمريكية ومستشارة السياسات العالمية في Brooch Associates؛ فضلاً عن سيد محمد مراندي، مستشار سياسي وبروفيسور في جامعة طهران؛ وطه أوزهان، مدير البحوث في معهد أنقرة.
افتتح باحوط الندوة عبر تسليط الضوء على التقلبات الراهنة في النظامَين الدولي والإقليمي. فقد شهدت الساحة الدولية في السنوات الأخيرة تحوّلاً من نظام الأحادية القطبية إلى نظام اللاقطبية الذي أحدث تزعزعاً كبيراً في العالم، مما زاد من قدرة القوى الإقليمية على اتخاذ قرارات بشأن بعض القضايا بدون تأثير جهات فاعلة خارجية. ومع ذلك، غالباً ما تكون أجندات هذه القوى معطِّلة وأشبه بصفقة إلى حدّ كبير، بما فيها الصفقة الأخيرة بين إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البحرية الجنوبية، وترتيبات تركيا مع دول الخليج. وهذه الصفقات قصيرة النظر لا تعالج الأسباب الجذرية للصراعات في المنطقة، وغالباً ما تساهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي على المدى الطويل.
ثمّ أشارت هاسلاش في تحليلها إلى أنّه بإمكان الشرق الأوسط الاستفادة من النظام العالمي الجديد على المستوى الكلّي إذا تمّ ذلك بالطريقة الصحيحة. فالولايات المتحدة ملتزمة بتحقيق الأمن في المنطقة، وترحّب بنهج متعدد الأقطاب تزيد فيه مشاركة القوى الإقليمية التي تريد هي أيضاً تحقيق أمن الشرق الأوسط. ويمكن أن تتعاون الكتل والتحالفات في قضايا مختلفة للمساعدة على معالجة التحديات الأمنية من ناحية الأوضاع في اليمن والسعودية ومصر والسودان وتركيا وسوريا. وقد عكست الحرب الروسية الأوكرانية مسار “الاتجاه شرقاً” أو أخّرت تنفيذه، مما جعل دول الشرق الأوسط شركاء معنيين وضروريين في أزمة الطاقة الحاصلة؛ الولايات المتحدة لم تَعُد تريد تحويل سياساتها بعيداً عن المنطقة، إنما تعتمد عليها للقيام بالمزيد. فضلاً عن ما سبق، لم تُشِر قوى عالمية أخرى، مثل الصين، إلى رغبتها في الاستعاضة عن الولايات المتحدة التي تُعدّ قوة إقليمية مهيمنة، حتى أنها لا تملك القدرة أو الموارد اللازمة لفعل ذلك. فالصين تواجه تحديات ديمغرافية، ونفوذها محدود بالحوار الأمني الرباعي (Quad) وبانخراط القادة الآسيويين في حلف شمال الأطلسي (NATO). وترى هاسلاش أنّ لدول الخليج دوراً جوهرياً ينبغي أن تؤدّيه في تعزيز المعايير الدولية التي تسهم في دعم النظام العالمي الجديد وإفادة هذه الدول، بالإضافة إلى الحثّ على التعاون مع جهات فاعلة إقليمية وخارجية لمعالجة قضايا أمنية مشتركة.
أكّد مراندي من جهته على أنّه من الأفضل وصف الوضع الإقليمي “بالاضطراب متعدد الأقطاب” الذي تعود جذوره إلى إدارتَي ريغان وكلينتون. فقد أدّى تدخّلهما في شؤون المنطقة والحروب المستمرة إلى خلق حالة من الاضطراب وزعزعة الاستقرار الإقليمي. وقال مراندي إنّ إيران أصبحت بعد الثورة الإسلامية مستقلّة بشكل متزايد عن النفوذ الأوروبي والأمريكي في عمليات صنع القرار. وأشار في تحليله إلى أنّ المفاوضات المتجددة في خطة العمل الشاملة المشتركة يعرقلها انعدام الثقة بين القوى، نظراً لأساليب المماطلة والعقوبات الأخيرة التي فرضتها الولايات المتحدة. وهذا ما دفع إيران إلى البحث عن شركاء جُدد والانضمام إلى اتفاقات دولية، بما فيها منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) تحديداً التي انضمت إليها إيران في سبتمبر. وأكّد مراندي على أنّ هذه التغييرات تُدخل ديناميّات ثنائية جديدة قد تدفع إيران نحو روسيا والصين وغيرها من البلدان غير الغربية.
وتابع أوزهان النقاش متناولاً السياسة الخارجية التركية والحاجة لتحليلات إضافية أكثر دقة “للتطبيع”. فهذه الكلمة، بحسب أوزهان، تدلّ على عمق استراتيجي ومجموعة قيَم غير ظاهرة في التطورات الأخيرة في العلاقات بين تركيا وإسرائيل و التي تقتصر ببساطة إلى استعادة العلاقات التي قُطعت منذ زمن طويل. ولسنوات عدة، حددت ديناميّات الحرب الباردة السياسة الخارجية التركية مع تأمين حلف شمال الأطلسي الحماية الأمنية. وشهد العام 2003 تغيّراً في حالة الإذعان للوضع الراهن الغربي، لأنّ تدخّلاً مدنياً في تركيا عارض إعداد المؤسسات الحاكمة مجموعة سياسات ترمي إلى الرفض القاطع للاحتلال الأمريكي للعراق. وقد أطلقت مجموعة السياسات هذه نهجاً لعضوية الاتحاد الأوروبي وتحقيق الديمقراطية والربيع العربي وغيرها من القضايا. وتبرز رؤية مشابهة لم تتجسّد بعد في ما يتعلق بأجندات السياسات الخارجية لتركيا ودول أخرى في المنطقة؛ لم تقدّم أي دولة استراتيجيةً فعالة أو مجموعة سياسات مرتبطة بالتغييرات الإقليمية. غير أنه يمكن التوافق على نقطة واحدة، ألا وهي مسألة الاستقرار التي ستكون على حساب النداءات الشعبية المطالِبة بتحقيق الديمقراطية أو غيرها من التطلعات السياسية. وفي ظل نشوء إجماع على تحقيق الاستقرار، قد تُهمَّش القضية الفلسطينية ومسألة الإصلاحات الجذرية داخل الدول.
وركّزت جلسة الأسئلة والأجوبة التي تلت النقاش على الدور المتغيّر للمنظمات الدولية اليوم. وغالباً ما تسفر الأزمات الكبيرة عن بروز معايير دولية ومؤسسات وأنظمة جديدة لمعالجة المسائل الملحّة. فعلى سبيل المثال، تأسست عصبة الأمم والأمم المتحدة عقب الكوارث التي تمخّضت عن الحربَين العالميتَين. وطُرح سؤال هنا حول ما إذا يمكن للحرب الأوكرانية، على غرار الأزمات الأخرى، أن تدفع القوى العظمى نحو دعم حقوق الإنسان وجهود الديمقراطية في المنطقة بشكل أصدقٍ، ولا سيما في حالة إسرائيل والأراضي الفلسطينية. وردّاً على ذلك، اتّفق باحوط وهاسلاش على أنّ إحدى قضايا النظام الدولي الأساسية هي الخلل الوظيفي وعدم المرونة في مجلس الأمن ونظام حق النقض فيه. وشدّدا على الحاجة لإصلاح داخل مجلس الأمن، على أمل أن يحدث قبل اندلاع أزمة كبيرة. أما باحوط، فلم يُبدِ تفاؤلاً إزاء إمكانية بروز دعم أوروبي لحقوق الإنسان والديمقراطية. فالحكومات الأوروبية لجأت إلى نهج “الأمن القديم” عند مواجهة الثورات العربية وتدفقات اللاجئين، متناسيةً الوقت الطويل الذي يحتاجه تحقيق الديمقراطية. وقالت هاسلاش إنّ التعاون بين دول الخليج وآسيا لا يستبعد التعاون مع الغرب، مع حصول إيران على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون واعتبار السعودية وقطر عضوين في الحوار؛ وقد تنشأ شراكات بين الصين والولايات المتحدة في المنطقة. وأشار مراندي من جهته إلى أنّ منظمة شنغهاي للتعاون تقدّم فرصة لبناء شراكات جديدة بهدف زيادة قدرة المنطقة على التكيّف في حال حصول ركود عالمي. وشدّد أيضاً على أنّ التعاون مع القوى الخارجية لا يكون بنّاءً في غالبية الأحيان، مشيراً إلى أنّ الديناميّات الإقليمية الناشئة تقدم فرصة للدول كي تجد الحلول المناسبة لها. وكرّر باحوط هذا الكلام عبر اقتراحه بأنّ الدول تعمل معاً على تطوير نظام براغماتي يرمي إلى إدارة هذا الاضطراب وتخفيف حدّته.