نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ندوةً عبر الإنترنت في 29 أغسطس 2022 لمناقشة حاضر قطاع غزة ومستقبله في أعقاب جولة العنف الأخيرة التي شنّتها إسرائيل. وشارك في الندوة كلّ من دلال عريقات، أستاذة مساعدة في الجامعة العربية الأمريكية؛ ومحمد شحادة، مسؤول البرامج والاتصال في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان؛ بالإضافة إلى عمر شاكر، مدير منظمة هيومن رايتس ووتش في إسرائيل وفلسطين. وأدار الزميلُ في المجلس عمر عبد الرحمن النقاش الذي حلّل التداعيات الإنسانية والسياسية المترتبة على القصف الإسرائيلي الأخير لغزة.
افتتح عبد الرحمن الندوة عبر تقديم عرض عام عن سياسات العزل التي انتهجتها إسرائيل منذ فترة طويلة، بما فيها الحصار الجوي والبرّي الكامل لغزة. فسكان القطاع يعيشون في ما يُشار إليه غالباً “سجن في الهواء الطلق”، بحيث يعانون انعدام الأمن الغذائي والفقر وارتفاع معدلات البطالة وعدم الوصول إلى مياه الشرب النظيفة، فضلاً عن انعدام خدمات الرعاية الصحية. وكانت قد ذكرت منظمة الأمم المتحدة أنّ غزة ستصبح غير صالحة للحياة بحلول العام 2020، والظروف المزرية للحياة اليومية هناك تعكس الواقع.
ثمّ تابع محمد شحادة النقاش معدّداً جملة من الأسباب التي تبعث على التفاؤل الحذِر. فغزة تتمتع بإمكانات ضخمة غير محقّقة من حيث الأراضي والموارد الطبيعية، ولسكانها قدرةٌ كبيرة على الصمود ولا يدعمون فكرة استخدام العنف لخدمة أجندات سياسية. ومع ذلك، أشار شحادة إلى أنه لا يمكن تجاهل الحقائق القاسية التي تحول دون توظيف الإمكانات البشرية لسكان غزة وتنميتها. فالفلسطينيون المكبّلون بالسياسات الإسرائيلية يشعرون بالتهديد في ظل ازدياد الوجود الأمني من خلال الطائرات المسيّرة المنتشرة فوق القطاع. وقد فُرضت أيضاً قيود صارمة على التنقل بين غزة والأماكن الأخرى، وتمّ حظر استخدام الأجهزة التكنولوجية البسيطة، مثل جهاز الصرّاف الآلي وآلات عدّ النقود، مما يؤدي إلى زيادة تقييد الوظائف الأساسية لاقتصاد غزة. وعلاوةً على ذلك، لفت شحادة الانتباه إلى التوقع غير المعقول للمجتمع الدولي بأنّ سكان غزة سيلزمون الصمت أمام أعمال العنف غير المبررة للإسرائيليين، مستنتجاً أنّ هذا القمع الممارَس على المجتمع المدني وعلى التعبير السلمي عن الرأي يزيد احتمال لجوء الأفراد إلى المقاومة المسلّحة.
انتقدت دلال عريقات عقب زيارتها الأخيرة لغزة المزاعم التي قدّمها الإسرائيليون عن انسحاب السلطات الإسرائيلية من القطاع، ومزاعم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون آنذاك في ما يخصّ نشر المستوطنين اليهود. فالحقيقة أنّه لم يتمّ تنسيق عمليات النشر المفاجئة هذه مع منظمات محلية، مثل منظمة التحرير الفلسطينية، على الرغم من المزاعم التي تفيد بالعكس. ورفضت عريقات حجّة زيادة التدابير الأمنية بهدف مراقبة حركة حماس، مؤكدةً على أنّ هذه الطريقة تعزّز الوضع الراهن العنيف في غزة. وترى عريقات أنّ التشرذم السياسي داخل المجتمع الفلسطيني يجعل الأحوال أسوأ مما هي عليه. فمن الضروري أن تكون غزة مدمجة اقتصادياً وجزءاً لا يتجزّأ من فلسطين، عوضاً عن اعتبارها كياناً منفصلاً. وقالت عريقات أيضاً إنّ الحصار شكلٌ من أشكال العنف الهيكلي والعقاب الجماعي لأكثر من 2.2 مليون فلسطيني يقيمون في غزة. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن التعامل مع سكان غزة من الزاوية الإنسانية وحسب، إنّما ينبغي إيجاد حلول سياسية لإحداث تغييرات جوهرية تتيح للفلسطينيين تشكيل جبهة موحّدة.
من جانبه، وصف عمر شاكر سياسة إسرائيل في غزة بعبارة “احبسوهم، اخنقوهم، أخضِعوهم، كرِّروا العملية”، مستشهداً بعنوان مقالته الأخيرة المنشورة على الموقع الإلكتروني لهيومن رايتس ووتش. فأسلوب “الحبس” الذي اعتمدته إسرائيل منذ العام 2007 حتى الآن يشير إلى الإغلاق العام لقطاع غزة عبر تقييد حركة الناس والسلع، وهي استراتيجية تسمح لإسرائيل بقمع النشاط الاقتصادي للقطاع. فانخفاض معدّل الناتج المحلي الإجمالي لغزة بنسبة 20 في المئة عن معدّله في التسعينيات خير دليلٍ على آثار هذه الاستراتيجية. وبجانب الحديث عن المقاييس المجرّدة مثل الناتج المحلي الإجمالي، يشير أسلوب “الخنق” الاقتصادي طويل الأمد إلى تقييد حصول معظم سكان غزة على الكهرباء بشكل يومي، وصعوبة وصولهم إلى الضروريات الأساسية وتأمينها. أما سياسة “الإخضاع” الإسرائيلية، فتتجلى من خلال الحلقات اللامتناهية من التصعيد العنيف، مثل استخدام الغارات الجوية التي تشمل أسلحة شديدة الانفجار ورميها باتجاه المناطق المكتظّة بالسكان، مما يسفر عن مقتل العائلات وتدمير البنية التحتية المدنية. وهذه الجرائم التي تُعدّ انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي تتوارى عن العناوين الرئيسة للصحف بعد بضعة أيام، ولا تلقى مقاومة دولية كافية. ونتيجةً لذلك، تتكرّر الحلقة. ويشدّد شاكر على أهمية ملاحقة الإسرائيليين وأفعال الفصل العنصري التي يرتكبونها لوقف العملية الوحشية المترتبة على هذه السياسات.
وتمحورت جلسة الأسئلة والأجوبة التي تلت النقاش حول دور السلطات الإقليمية في زيادة المساءلة والضغط السياسي. وتجدر الإشارة إلى أنّ مصر وقطر مصدران أساسيان للمساعدات الإنسانية في قطاع غزة، لكنّ هذه المساعدات لا تكفي وحدها لمعالجة المسائل السياسية الرئيسة أو تغيير السياسات الضارة، إنما قد تسمح باستمرار تكرار حلقات العنف من خلال تخفيف الآثار الكاملة لسياسات إسرائيل. وغالباً ما تركّز الدول على تقديم الدعم المالي والمساعدات على حساب مواجهة الاحتلال وجرائمه. غير أنّ إيجاد حلّ دائم وهادف لقطاع غزة يتطلّب معالجة المسائل الرئيسة، بما فيها مسألة الحصار وانتهاكه لحقوق الإنسان الأساسية. وتكمن الخطوات الأولى لإنهاء هذا الكابوس في مساءلة إسرائيل وتفكيك هياكل الفصل العنصري وعدم الإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان، فضلاً عن إنفاذ القانون الدولي.